أُثيرت قضية التمييز العنصري من جديد في الولايات المتحدة الأمريكية؛ مما فتح هذا الملف مجددًا، أم عساه لم يُغلق قط؟ وهل كان الأمريكيون من أصل أفريقي هم الضحية الوحيدة؟
يروي لنا الأدب بعضًا من هذا الملف، فالأدب يفتح أبوابًا لينفذ النور على ما طواه التاريخ، أما التاريخ المعاصر فيرويه المُتحكمون في الإعلام بحسب كل عصر.. “التاريخ قصة مؤَلفة يرويها المنتصرون”.
1- نظرة ثانية!
الأمريكيون الأصليون ليسوا سكان المستعمرات البريطانية بل قبائل الهنود الحمر. لا نعرف عنهم من السينما الأمريكية سوى أنهم متوحشون، ويعيشون في البراري ليزعجوا الكاوبوي فيقوم بمغامراته الشيقة (باستثناء فيلم يرقص مع الذئاب)، إن الأمر يستحق نظرة ثانية.
رواية نظرة ثانية (Second Glance) ، حكاية مُتشعبة التفاصيل، تأخذنا فيها جودي بيكو Jodi Picoult عبر الزمن في قالب خيالي لا يخلو من الرومانسية، لكن ما لفت نظري في هذا الرواية أنها تناولت حقبة تاريخية لا يتحدث عنها الأمريكيون كثيرًا كأمجادهم في الحروب العالمية مثلاً. ربما لأنهم يشعرون بالخجل ولهم الحق في ذلك.
تتناول الرواية مشروع بناء مركز تجاري في ولاية فرمونت Vermont على أرض كانت تنتمي قديما لقبيلة الأبناكي، لكن العمال يرددون حكايات عن أشباح تسكن الأرض ويمتنعون عن العمل، فتأتي الشركة مضطرة بطارد الأرواح الشاب بطل القصة. وهنا نعرف لماذا تحوم الأشباح في هذه الأرض ولمَ هي غضبى.
هل سمعت قبلاً عن مشروع التعديل الجيني Eugenetics؟
الكلمة تعني حرفيًّا “عرقًا جيدًا” وتعني اصطلاحًا تحسين العرق بانتخاب السلالات الأفضل للاستمرار والقيام بمنع “السلالات” غير الجيدة من التناسل والتزايد. إنهم يتحدثون على أناس، وليس حيوانات بالمناسبة! تبدو الفكرة خليقة بالنازية أليس كذلك، محافظةً على نقاء الجنس الآري؟ بالطبع نفذها النازيون، لكن سبقتهم دول أخرى إلى هذا الأمر، من أبرزها الولايات المتحدة الأمريكية.
في أوائل القرن العشرين، تقدم مواطنو فيرمونت المحترمون بمشروع لمجلس الولاية لتطوير وتحسين الخلفية المجتمعية، فقاموا بتمرير قوانين تمكنهم من إجراء عمليات sterilization أو عُقم “للمرضى النفسيين والأقل ذكاءً” بحسب تصنيفهم، كالعادة استهدفوا الأقليات من Native Americans like Abnakis and French Canadians أي قبائل الأبناكي من الأمريكيين الأصليين والمهاجرين الفرنسيين الأصل. بحسب موقع جامعة فرمونت وقع ضحية هذا المشروع أعداد تتراوح من 200 إلى 253، أغلبهم من النساء. أعتقد أن الأشباح محقة.
على ذِكر الأشباح، السحر كذلك لعب دورًا في ملف التمييز، ها هي قصة أخرى أكثر شهرة من سابقتها.
2- مطرقة الساحرات أم مطرقة التمييز
هذه الحكاية التاريخية الشهيرة، تطرقت إليها الكثير من الأعمال الأدبية، أغلبها من نوعية الرعب والغموض، إنها حادثة سالم الشهيرة في القرن السابع عشر، التي أسفرت عن إعدام حوالي 20 شخصًا معظمهم من النساء أيضًا بتهمة ممارسة السحر والشعوذة.
تحكي عنها الكاتبة البريطانية “إليزابيث جاسكال” في واحدة من أقدم المعالجات لهذه الحادثة، رواية قريبة إلى حد ما للقصة الواقعية، في قالب مختلف عن التناول المعتاد لهذه القصة، في قصتها القصيرة (Lois the witch ) عام 1861.
لويس هي فتاة بريطانية، بعد وفاة ذويها تضطر إلى السفر إلى الولايات المتحدة للعيش مع أقاربها، ويتم اتهامها بالسحر والشعوذة ضمن الهيستريا العامة في مدينة سالم Salem ومدن أخرى، بدأت الهيستريا بمرض ابنتيّ القس بأعراض أقرب للجنون، بالطبع لم يكن خليق أن تُصاب بنات قس محترم بمثل هذا المرض، فاتهموا خادمتهم ذات الأصول الأمريكية الأصلية Native American بعمل سحر سبب لهما تلك الأعراض، تدور دائرة الهيستريا في المكان ويُتهم العديد من النساء والفتيات ومن ضمنهن “لويس”، الحقيقة أن بنات عمها لم يحبوها لذلك زجوا بها في طريق التحقيقات، أشارت الكاتبة كذلك لاختلاف مذهبها الديني عن Puritans، وهو مذهب معظم أهل القرية. لم تكن المحاكمات محاكمات فعلية، كانت أقرب للمسارح الهزلية ومجرد الاتهام كان كافيًا للإدانة.
تم شنق لويس بالفعل في لحظات درامية جدًّا في نهاية القصة، مع فتيات أخريات دون جريرة منهن سوى أنهن لم يكن من المحبوبات في القرية، إما لعرقهن المختلف أو لخلفيتهن الدينية المختلفة أو لمجرد أنهن من المنبوذات اجتماعيًّا.
كتب مواطنو القرية لاحقًا، بعد مرور سنوات طويلة، خطاب اعتذار يعبرون عن عميق ندمهم على أحكامهم الجائرة. هل ينفع الاعتذار؟!
قدم الأمريكان اعتذارًا أكثر فاعلية في الحادثة الثالثة والأخيرة التي سنتناولها، وهي ليست من رفوف الكتب الأدبية، وإنما من ملفات الأبحاث العلمية هذه المرة.
3- حادثة Tuskegee
تجربة تاسجكي واحدة من أفظع التجارب العلمية التي لا تقل شناعة عن التجارب النازية، أُجريت على 600 من “أقلية” الأمريكيين من أصل أفريقي في ثلاثينيات القرن الماضي وحتى عام ١٩٧٢، بواسطة معهد تاسجيكي بالتعاون مع الحكومة الأمريكية ممثلة في United States Public Health Service.
التجربة أصلاً تدرس مرض الزُهري وتطوره الطبيعي، لكن في الأربعينيات تم اكتشاف البنسيلين واستخدامه كعلاج ناجح للزهري. غير أن الباحثين آثروا استمرار التجربة فمنعوا العلاج عمدًا عن المرضى المقيدين في البحث دون أن يعلموهم بالطبع، بل تركوهم ينقلون المرض لأزواجهم وأطفالهم.
لم تنته هذه المأساة إلا حين تسربت أنباء هذه التجربة إلى الصحف، فأوقفوها أخيرًا. أسفرت القضايا التي رُفعت لاحقًا عن تعويضات ضخمة وبرنامج علاجي كامل للمرضى وذويهم أشرفت عليه CDC. وبسبب هذا المشروع سُنت قواعد صارمة للبحث العلمي وأخلاقياته فيما بعد.
أخيرًا:
التعصب وما يترتب عليه من اضطهاد، دومًا يرتدي قناعًا ما: عرقي أو ديني، لكنه في الحقيقة يعتمد على الثقل الاقتصادي ومن ثم السياسي لتلك الأقليات. كما يقول لنا الأب الروحي (دون كورليوني): Finance is a gun. Politics is knowing when to pull the trigger. “المال هو المسدس والسياسة هي معرفة متى تطلق الزناد”.
فالجماعات اليهودية مثلاً، كانت منبوذة قديمًا في الثقافة الغربية (اقرأ شايلوك شكسبير مثلاً أو المُرابية العجوز في الجريمة والعقاب)، غير أنهم الآن يمتلكون الثقل الاقتصادي والإعلامي الذي جعلهم أكثر قوة، بل ويمارسون التعصب بدورهم ضد الآخرين ويتبنون قانونًا لمعاداة السامية! وهو شيء عجيب في ثقافة تدّعي الليبرالية.
يذكرك هذا المبدأ الأعوج بالمثل المصري (شعار النفاق المصري للأسف) “إن كان لك عند الكلب حاجة قل له يا سيدي”، هي المصلحة إذًا المتحدثة فأنت لا تمارس التعصب أو حتى التمييز حقيقةً إلا في حالة انتفاء وجود مصلحة!
“لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ”
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست