اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر رجل دين؛ كانت تلك الكلمات أحد الشعارات التي ردَّدها الثوار الغاضبون، وصدحت بها الجموع الثائرة على النظام الحاكم، ومن بعده الكنيسة، خلال الثورة الفرنسيَّة، وباتت فيما بعد المستند الرئيسي الأول لواحدة من أكثر الأيديولوجيّات التعقيدية في القرنيْن الماضيين، في دلالاتها المعرفية والبنيوية، وتطوّرها الأيديولوجي، هي العَلمانية.
والعَلمانية ببساطة نشأت ردَّ فعلٍ على ممارسات الكنيسة تجاه الشعب وسلطتها القمعية، وموقفها الصارم المتحجر حيال الفكر والعلم، فكانت النتيجة المطالبة بإقصاء الدين تمامًا عن واقع الحياة. ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أن العَلمانية تختلف عن الإلحاد، فهي لا تعني عدم الإقرار بوجود إله وخالق للكون والبشر، ولا تنص على رفض الدين، أو منعه، بوصفه ممارسة أو اعتقادًا خاصًّا.
جاء في معجم الوسيط في تعريف كلمة عَلماني: العَلماني نسبة إلى العَلم أي العالم، وهو خلاف الديني أو الكهنوتي. واتفقت جميع معاجم اللغة العربية على أن أصل كلمة عَلمانيَّة يعود إلى العَالم بفتح العين، وليس إلى العِلم بكسر العين، ولا تُنسب إلى العِلم أبدًا. ويؤكد الدكتور الراحل عبد الوهاب المسيري في كتابه العَلمانية الجزئية والعَلمانية الشاملة أن المصطلح ينسب إلى العَالم، وهذا هو المقابل الصحيح للمصطلحات الأجنبيّة الفرنسيَّة والإنجليزيَّة.
في حديثه عن العَلمانية يقول الشيخ محمد الددو الشنقيطي: هذه الفكرة – أي العَلمانية – هي الضدّ الأول للدين، كل الديانات الإسلاميَّة، والمسيحيَّة، واليهوديَّة، ضد التديّن من أصله. وخلاصتها أن الدين ينبغي أن يكون شيئًا بين العبد وربه، وأن يكون نطاقه أيضًا مختصًّا بإشباع الجوْعة الروحيّة من خلال التديّن فقط. وبالتالي يزال من الدين أكثر من ثلثيه، ما يتعلق بالحكم والقضاء، والاقتصاد، والعقوبات، والشؤون الاجتماعيّة والتعليم.
ويذكر الشيخ أيضًا أن الأسباب الأصلية لظهور العَلمانية هي التحجر الديني، وسيطرة رجال الكنيسة، وقتلهم كل من يريد إبداعًا، وعدم تشجيعهم المبدعين في المجالات العلميَّة المختلفة.
ويؤكد الدكتور المسيري على أنهُ سواءً في الساحة الغربية أو الساحة العربية، تنقسم العَلمانية إلى نوعين: عَلمانيَّة جزئية وعَلمانيَّة شاملة.
- العَلمانية الجزئية:
هي المطالبة بفصل الدين عن الدولة. ويلاحظ أن هذا التعريف يلزم الصمت بخصوص القيم الأخلاقيَّة المطلقة، والحياة الخاصة، ويتركها للفرد ينظمها كما يشاء. ففصل الدين عن الدولة هنا لا يتحدث عن المرجعية ويتدخل بها.
- العَلمانية الشاملة:
هذه العَلمانية لا تنصرف إلى الدولة وحسب، إنما إلى كل النشاطات الإنسانيّة العامة والخاصة. فهي لقاء ذلك ليست فصل الدين عن الدولة، إنما فصل القيم عن الحياة في شكليها العام والخاص. ومن ثم يتحول العالم إلى مادة استعمالية أو خالصة. وتطبق على الإنسان والطبيعة القوانين المادية فتصبح كل الأمور نسبية ومتساوية، هذه هي العَلمانية الشاملة. منظومة خالية من القيم تمامًا وتتعارض مع كل المنظومات الأخلاقيَّة، سواء كانت إسلاميَّة أم مسيحيَّة أم يهوديَّة، أو حتى غير إيمانيّة، لكنها تؤمن بالقيم المطلقة.
تشير دراسة نشرتها المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات في سبتمبر (أيلول) عام 2014 إلى أنهُ بالإمكان تنظيم العلاقة بين الدولة وجماعة دينيّة أو أكثر بطرق مختلفة، ضمن إطار الأسس الرئيسية الثلاثة للدولة الديمقراطية، وتنص الأسس الثلاثة على أنهُ لا يمكن لدولة أن تحظر التعبير الديني السلمي، ما دام لا ينتهك النظام العام أو حقوق الآخرين، وألا تفرض الوحدة أو الطاعة في مسائل الاعتقاد والممارسة الدينية، وألا تعاقب الناس على أساس معتقداتهم، أو هويتهم الدينية، أو تمارس التمييز بحقهم على هذه الأسس.
وتذكر الدراسة أن هناك خمسة أنماط أساسية للعلاقة الدستورية بين الدين والدولة:
- العَلمانية القوية:
وتمثل فرنسا النموذج الأساسي لهذا الشكل من العَلمانية، وتقف الدولة في هذا النمط موقفًا متحفظًا تجاه التدين العام، الذي ينظر إليه بوصفه تهديدًا لصلاحيات وسلطنة الجمهورية. - عَلمانيَّة ضعيفة، حيادية الدولة في أمور الدين:
فالدولة لا تؤيد الدين ولا تنتقده، ولا يجوز ممارسة الدين أيًّا يكن علنًا، أو تمويله من سلطة عامة. وفي المقابل، لا يجوز للسلطات أن تمنع المعتقدات أو الممارسات الدينية، أو تقيدها، أو تروج لها أو تدعمها، كما لا يجوز التمييز ضدّ أي دين أو محاباته، كالولايات المتحدة. - الاستيعاب التعددي:
تحاول الدولة استيعاب الأديان وتتعاون مع المؤسسات الدينية في الوظائف الاجتماعية، كدولة ألمانيا. - الاعتراف بدون تكريس:
يمكن أن يمنح الدستور اعترافًا شكليًّا أو رمزيًّا لدينٍ معين في نصوصه، كما في دستور أيرلندا حتى سبعينيات القرن الماضي، والاعتراف بحد ذاته لا يعطي لدين معترف به أو لأديان أخرى امتيازات خاصة، أو سلطات شبه عامة. - المؤسسة الدينية:
توجد المؤسسة الدينية، إذا كانت الدولة – مع اعترافها بالأسس الديمقراطية للحرية الدينية وعدم التمييز- تقيم صلة رسمية مع دين معين يترسخ بناءً على دعم الدولة، وتمويلها، وتأييدها، أو رعايتها، كدولة النرويج.
ويتفرع عن المؤسسة الدينية فرعان هما:
- المؤسسة الدينية الضعيفة:
ويكون دور الدين فيها ضعيفًا ومحدودًا، ويختلف قليلًا عن نمط الاعتراف. - المؤسسة الدينية القوية:
وفيها يكون الدين مهيمنًا على الدولة، وتخصص بعض المناصب الرفيعة لأشخاص من دين محدد، كإيران، أو اليونان التي ينص دستورها على أن الدين السائد في الدولة هو الكنيسة المسيحية الأرثوذكسية الشرقية.
وبالطبع فإن العلاقة بين الدولة والدين غالبًا ما تختلف من الناحية العملية عن التصنيف المذكور أعلاه، بوجود ترتيبات براغماتية ترمي إلى معالجة مشاكل خاصة.
ويرى الدكتور المُسيري أن العَلمانية في عالمنا العربي بدأت ممارسة قبل أن تكون فكرًا، وكان ذلك في دخول الاحتلال الأجنبي للبلدان العربية. ويُشير الشيخ الشنقيطي إلى أن العَلمانية موجودة في بعض البيئات التي سيطر عليها الجهل في العالم الإسلامي، كبعض المشايخ الذين يدرسون فقط الكتب القديمة، ويجعلون تأليف البشر كالوحي المنزل من عند الله، فيعدون هذه النصوص ذات قداسة في ذاتها، أو بعض الأشخاص الذين يتقيدون ويحصرون الدين في مذهبٍ واحد، أو الشيخ الذي يرى كل الطرق مسدودةٌ إلى الله إلا طريقهُ. ويؤكد أن هذا النوع المتحجر يؤدي إلى مثل تلك ردات الفعل غير الموزونة التي حصلت في أوروبا.
في الدولة الديمقراطية ذات المبادئ الحقوقية، تبتعد الدولة عن أن تُكرِه الناس على دين ما، كما تمتنع عن القسر والإجبار على العَلمانية. الحرية الدينية حقٌ شخصي للفرد يتصرف به كما يشاء وكيفما يرى. والمهم في هذا الأمر هُنا ليس كون الشخص متديّنًا أو عَلمانيًّا، وإنما كوّنه ديمقراطيًّا أم غير ديمقراطي. هناك العلماني الفاشي، والمتديّن الديمقراطي، والملحد الديمقراطي.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست
علامات
العلمانية