تعرّضنا في المقال السابق لمفهوم العَلمانيَّة ونشأتها وأشكالها المتداولة داخل أروقة السلطة والحكم، و نذهب في هذه الورقة للنظر في العَلمانيَّة من منظورٍ إسلامي معاصر.
يذكر الصحفي جمال خاشقجي في مقالٍ له أن دُعاة العَلمانيَّة يُريدون أن يزجوا بها إلى داخل نظام طبيعته وتركيبته لا تتفق معها، بل إن قليلاً منها يمكن أن يفسد المزاج ويفقد الدولة أهم مقوماتها وركائزها في الحكم. ومقصده بهذا القول أن العَلمانيَّة لا تتماشى وتصلح لدول العالم الإسلامي وأنظمتهِ، وتتعارض مع الكثير من المقومات والركائز الأساسية في الشريعة الإسلامية، أهمها:
فصل الدين
في إطار حديثه عن العَلمانيَّة والإسلام يقول الدكتور يوسف القرضاوي: أن عزل الدين عن الدولة ممكن في الغرب، كون الديانة المسيحية تقبل انشطار الحياة وانشطار الإنسان، بينما الإسلام بعيد عن مفهوم الانشطار والانقسام، كما أن الديانة المسيحية لم تُشرِّع وتُقرّر أحكامًا وقوانين بخلاف الإسلام المشتمل على كثير من التشريعات والقوانين. والغرب أيضًا معذورٌ في قبوله للعَلمانيَّة، كونها قد حلت مشكلة تحكُّم الكنيسة وتسلّطها على رقاب الناس وضمائرهم، ووقوفها بجانب الملوك ضد الشعوب، والظلام ضد النور.
والإسلام لا يفصل بين الدين والدنيا، يل يجمع بينهما ويعمل لأجلهما في إطارٍ متكامل بخلاف المسيحية.
السلطة والحكم
ذكر الدكتور محمد علي أبو هندي في كتابه القيّم «مشروع النهضة بين الإسلام والعلمانية» أن العديد من الصراعات دارت حول طبيعة السلطة الحاكمة في الإسلام وشكلها، أهي سلطة دينية كهنوتية تمثل رجال الدين، كما كان حال الكنيسة الغربية في أوروبا في عصر نهضتها، أم هي سلطة عَلمانيَّة متحررة من الروابط والضوابط الدينية والأصول العقائدية؟
ويقول: اجتمع موقف مفكري الإسلام الذين يمثلون الاتجاه الإسلامي الحضاري على أن نظام الحكم في الإسلام ليس سلطة كهنوتية، ولا هو سلطة عَلمانيَّة متحررة من الأصول الدينية؛ وإنما سلطة مدنية إسلامية تعتمد على الأصول والضوابط الواردة في القرأن والسنة التشريعية. والقول بالمرجعية الإسلامية لا يعني القضاء على الآخر ومحوه، بل إن للإسلام تنويره وحداثته في تشريعه للمواطنة والموقف من أهل الأديان الأخرى وتحرر المرأة ومدنية نظم الحكم في المجتمعات المدنية الإسلامية. ويشير الدكتور محمد عمارة إلى أن السلطة في الإسلام مدنية بشرية قائمة على الاختيار، واختلاف المرجعيات واختلاف المقاصد هو الذي يمايز بين النظم والحكومات الإسلامية والغربية.
وللمسلم وغير المسلم الحق في خوض العمل السياسي وتولي مناصب الحكم والإدارة في البلاد، وحق المشاركة والتمثيل في كافة السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وفق منظومة الحكم الديموقراطي.
الدولة الدينية
يرى الأستاذ أبو هندي أن كثيرًا من مسائل الخلاف بين الإسلاميين وبعض العلمانيين تعود إلى أبعاد نفسية وهو الخوف من عودة سلطة دينية مماثلة لسلطة الكنيسة في التجربة الحضارية الغربية.
ويؤكد الدكتور الفقيه أحمد الريسوني أن مشكلة الدولة الدينية هي مشكلة أوروبية، اسمًا ومضمونًا، أما في عالم الإسلام وتاريخه فلا نجد هذا المطلح، وليس هناك في الإسلام ما يسمح بظهور دولة دينية ثيوقراطية باسم الإسلام.
والإسلام ينكر أن تكون طبيعة السلطة السياسية الحاكمة دينية خالصة، أي ينكر وحدة السلطتين الدينية والزمنية، ولكنه لا يفصل بينهما، وإنما هو يميّز بينهما، فالتمييز لا الفصل بين الدين والدولة هو موقف الإسلام كما يوضح الدكتور محمد عمارة. والسلطة الزمنية هي التي تنظم علاقة الإنسان بالإنسان وترسم لتلك العلاقة حدودًا في المعاملات بشتى ملابساتها وتتفرع عن هذه السلطة سلطات ثلاث: السلطة التشريعية والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية.
لا تجلب العَلمانيَّة الديمقراطية كما يدّعي البعض، فمعظم الدول العربية تحكمها حكومات شمولية وتأخذ بالمنهج العَلماني، ولم تُحْصر الديموقراطية يومًا بالعَلمانيَّة . وكان أستاذ الأخلاق السياسية محمد الشنقيطي قد أشار حول هذه القضية بقوله: أن العَلمانيَّة لن تقوم لها قائمة في العالم الإسلامي إلا بالقهر والجبر، وأن مزيدًا من حرية الشعوب سيقود إلى مزيد من حضور الإسلام في الشأن العام. وإذا كان أستاذ أمريكي من خلفية يهودية (نوح فيلدمان)، وأستاذ أمريكي من خلفية مسيحية (رومان مارتينيز)، قد أدركا بوضوح «أن مزيدًا من الديمقراطية يعني مزيدًا من الإسلام» وأقرَّا بهذا الأمر بنزاهة، فمتى يدركه ويُقرُّ به المغفّلون والمكابِرون من العلمانيين العرب؟!
والغريب هو رفض بعض العلمانيين وعداوتهم لدعوة جمال الدين الأفغاني الهادفة إلى تأسيس التمدن الحديث على أسسٍ إسلامية، ويرى الدكتور عمارة أن هذه التهمة هي الجوهر العبقري في دعوة الأفغاني إلى الاستفادة من علوم الغرب وتطبيقاتهم مع الحفاظ على ما تتميز به حضارتنا وشخصيتنا القومية من فكر وقيم. كما يرى أنه هناك إمكانية لتأسيس مرجعية إسلامية داخل الفصيل العلماني المعتدل، وهذه الإمكانية ممكنة إذ أن الخلاف بين الإسلاميين وبعض العلمانيين يدور حول مفهوم الدولة الإسلامية، فهو في نطاق الأفكار لا العقائد.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست