«الجزر يقوي النظر!»

مَن منا لم تُلقّنه أمه تلك النصيحة؟، وبرغم هذا الاتفاق، نحن لا ندري مَن ذا الذي أنزل الجزر تلك المنزلة، وجعل بيتنا ذات صباح ممتلئًا بالكثير منه!

لقد زاحمنا الجزر، ولم يكتفِ بهذا، بل إنه جعل أمي تُقرنه بالطعام كالملح.

إنَّ الناظر جيدًا لما آل إليه عصرنا الحالي، لم يكن ليستنكف هذا الغزو المفاجئ من الجزر!

يقول الفيلسوف الروماني شيشرون «إنَّ الشهرة هي مديح الغوغاء».

لقد امتلأت علينا الدنيا في هذا العصر بمثل هؤلاء، الباحثين عن الظهور، ولفت الأنظار، ومن الجلي أنه قد ساهم انتشار الإنترنت بشكلٍ عام، ومنصات التواصل بشكلٍ خاص في ظهور هؤلاء وشهرتهم.

أتذكر ما أخبرتُكَ به عن الجزر؟، لا تنسه.

والآن كان من المهم أن نتساءل ما الذي يجعل هذا الأمر مطلبًا للعديد من صنوف البشر؟

إنَّ الإنسان هو الكائن الحي الأكثر اجتماعية على وجه الأرض، ولقد أثارت تلك الفطرة إحدى شهواته، وهي محبة الظهور، إنَّ النفس الإنسانية دائمًا ما تطوق إلى الاحتفاء بها وتسليط الأضواء عليها، وتلك هي أحد أخطر وأسوأ شهوات النفس، لذلك ليس غريبًا ما وصلنا من سلفنا الصالح وأئمتنا (رحمهم الله)، خوفهم من الشهرة بين الناس، فكما ورد على لسان الإمام أحمد قوله «أريدُ أن أكون في شعبٍ بمكة حتى لا أُعرَف، قد بُليتُ بالشهرة، إني أتمنى الموت صباحًا ومساءً».

لقد وعى سلفنا الصالح ماهية تلك الشهوة التي تُصيبُ الإنسان، لذلك قال الإمام أحمد قد بُليتُ، فهو يعلم جيدًا أنَّ ما أصابه من معرفة الناس له، وذيوع صيته في كافة الأرجاء، ما هو إلا ابتلاءٌ له، وقد يتساءل البعض عن ماهية ذاك البلاء بالتحديد؟

أولًا تعريض صاحبها إلى الهلاك، ويكون ذلك بظن المرء بأنه قادرٌ على الإفتاء والحديث في كل شيء، وأنَّ موافقة مُريديه على أقواله تُعطيه صكَّ التنزيه، فلا يقبل المراجعة.

ثانيًا فتنة التبجيل، لقد اُفتتنَ أحدهم بكثرة التصفيق، فأصبح يتغذى عليه، لذلك فإن اختفاء ضجة الحفاوة الخرقاء من حوله قد تُميته، أو تصيبه بالجنون على أقل تقدير، لذلك فإن بعضهم ممَن خفت نجمه يحاول الرجوع مُتشبثًا بأي قولٍ أو فعل يُساعده في رغبته، وأكثرهم يكون مُتكئًا على القاعدة الشهيرة التي تقول «خالف تُعرَف»، والأمر هنا بات لا يتخذه مَن غُمرَت شهرتهم وأرادوا العودة فحسب، بل مَن أراد الظهور لأول مرةٍ أيضًا!

لقد ذكرنا اثنتين من مصائب الشهرة وابتلاءاتها، وإن أردتَ أن أعدد لكَ الكثير منها لفعلتُ، ولكنّ هاتين كانتا أعظمهما بلوى، والآن أذكر تساؤل أحد الأصدقاء، إذ يقول كيف لم يُصب الأئمة والعلماء، والكثير ممَن يُحسبون في زمرة المشاهير؟، وهنا يحضرني قول أحدهم «الشهرة كالإمارة مَن طلبها أذلته»، ويُمكننا التأكد من صحة هذا القول إذا أمعنا النظر جيدًا فيما حولنا، فنجد أنّ مَن غرضه الظهور فحسب قد أذله وفتنه ظهوره، وأما مَن على النقيض فلا.

والآن ونحن في القرن الحادي والعشرين، هل أستطيع أنْ أُشخص هذا القرن بأنه قد أُصيبَ بالعُضال؟، بالتأكيد لقد أُصيبَ بعُضالِ الشهرة!

فكما ذكرنا آنفًا فإن الشهرة تُعتبر إحدى شهوات البشر على مَرِ الزمان، لذلك فإن لكل حقبة من حياة الإنسان طريقة لإظهار تلك الشهوة، وعندما ظهر الإنترنت وانتشر في عصرنا الحالي ساعد بصورةٍ كبيرة وسريعة على الظهور، والأمر لا يحتاج سوى أن تفتح الكاميرا وتجلس أمامها، أو أن تكتب بضع كلماتٍ بضغطاتٍ مُتتالية على شاشة حاسبك.

«لقد أضحى الأمر سهلًا، إنَّ آلاف البشر بمقدورهم سماعي ورؤيتي دون أدنى مجهودٍ يُذكَر، بإمكاني الكذب وإثارة المجتمع، بإمكاني الخوض في أي شيءٍ أريد ولن أُمنَع، سينبهر أحدهم بي، أو يسبني آخر، وفي كلتا الحالتين سيراني الكثيرون من ورائهما، سأحصد الإعجاب بالتأكيد».

إنَّ تلك هي بعض الكلمات التي يُرددها مُريدو الشهرة في وقتنا الحالي، فوجب علينا الانتباه.

أما زلت تذكر قولة شيشرون!، لقد جاء هذا الفيلسوف العظيم بمربط الفرس، حيث إنه ربط الشهرة بمدح السفلة من الناس، هنا وجب علينا تضييق هذا المفهوم في خضم الشهرة الزائفة، أو الفاسدة إن أردنا الدقة، وبهذا نستطيع التوصل لكيفية صعود هذا الرجل رديء الصوت إلى المسرح، ومثله ذاك الكاتب الفاسد.

ختامًا يحضرني قول الأمريكي آندي وارهول «في المستقبل سيكون بقدرة أي شخص أن يحظى بخمس عشرة دقيقة من الشهرة»، لقد صدق في قوله، وأصبح بقدرة أي شخصٍ الحصول على تلك الشهرة، ولكن ألم تلحظ معي هذا؟!

فقط خمس عشرة دقيقة، صدقني ستزول شهرتهم وإن ظننتها طالت.

والآن أين ستذهب؟، أما زلت تذكر حديثي عن الجزر!، إذن لا تنسَ أن تُخبر أمي أنّها قد خُدعَت، ووصها أنْ تأتي بالبطاطا الحلوة!

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

تحميل المزيد