لطالما يتحرج الكثيرون من البوح بالكلام فيما يخص المراجع بسبب مورثات دينية وأخرى اجتماعية تشكلت على مدى عصور ولدت هالة من القدسية كان لها أثرٌ في تكميم الأفواه التي أنشأت بالتتابع أجيالا مصابة بقصور فكري تغول من خلالها رجال دين وتسلطوا على مجتمعات أعلنوا الوصاية عليها .
.
يمر العراق اليوم في بيئة مشابة بشكل كبير لما مرت به أوربا قبل الثورة الفرنسية , والتي تسبب الغزل المتبادل ما بين الكنيسة والملوك لأن تعيش الشعوب آنذاك بظروف أقل ما توصف بأنها ظلامية , ووفاة الملايين التي تكلم عنها التأريخ بسبب الجوع وتفشي الأمراض الوبائية كانت انعكاسا طبيعيا لطغيان الأمراء والإقطاعيين الذين منحوا الحصانة من قبل الكهنة والبابوات, مقابل ضرائب أنهكت العمال والفلاحين, حيث لعبت الكنيست دورا مهما في تخدير الشعوب عبر الإيهام بأن الصبر على الألم والمعاناة وضيق العيش سيدخلهم الجنه .
.
أما ما دونه التأريخ عن آلاف آخرين تم حرقهم وهم أحياء في إنكلترا وأسبانيا بتهمة ممارسة السحر والشعوذة لمجرد تجرؤهم في المناداة بوجوب تفعيل الحقوق المدنية , لربما سيهون علينا الأمر وسيعزينا فيما نمر به اليوم من أحداث تدفعنا بوجوب التمحيص والاستفادة من تجربة دول عانت ما نعانيه من مخاض .
ظروفنا اليوم نسخة من الحقبة الأوربية, وتصريحات شخصيات سياسية وحزبية حول التظاهرات, واصفين إياها بأنها انقلاب على الدين وبإشراف ورعاية شخوص علمانية وإلحادية , هو إعلان بحد ذاته لإباحة التصدي للمتظاهرين حتى لو تطلب الأمر تصفيتهم جسديا, وبالتالي سيعيد التأريخ نفسه ليصلب دعاة الحرية والعدالة عند منصات المقصلة .
فالمطالبون بالإصلاحات لا حماية لهم سياسية أو قانونية أو حتى دينية , الكثيرون اتخذوا من المتظاهرين موقف ” قلوبنا معكم وسيوفنا عليكم ” وما قاله ممثل مرجعية النجف وفي آخر تصريح له , إن الإصلاحات تحتاج إلى الصبر! , لهو دليل واضح على عدم قناعة المؤسسة الدينية للاصطفاف مع الشعب , فهل إصدار فتوى ملزمة للحكومة بمحاسبة الفاسدين فعليا، وليس صوريا، ستكون أصعب وأشد من فتوى الجهاد الكفائي الذي تشكلت على أثره وخلال سبعة أيام جحافل عسكرية فاقت ـ عدة وعددا ـ مؤسسة وزارة الدفاع نفسها!
افتقار الشارع العراقي لحاضنة شعبية تدعم الناشطين من أفراد وهيئات ومؤسسات مجتمع مدني تصارع لغرض تصحيح المسار , سيجعل منهم لقمة سائغة , وعبر متابعة لبعض من نزل ضمن التظاهرات وما تبناه من شعارات سيدفنا للشعور بخيبة أمل كبرى , فأحدهم يصرخ مطالبا المرجعية بإصدار فتوى تحرم الفساد وسط تأييد لمن حوله من رفاق , وهو طالب أكاديمي كما عرف عن نفسه في لقاء تلفازي , وكأن الدين والعرف يبيح الفساد وحان الوقت لتتدخل المرجعية وتجتهد وتضع حدا لظاهرة تفشت ونمت!
وفي حالة أخرى , شاهدت أحد المتظاهرين وهو يطأ بقدمية صورة للرئيس الراحل صدام حسين ويشير بأصبعه لها مبتسما ومستبشرا وكأنما اكتشف نظرية دحضت نظرية نيوتن!
حالات أخرى لا مجال لذكرها , ولا يمكن أن نستهين بها ونقزمها ضمن حالة الاندساس وسط جموع الغاضبين والتي بات الكثيرون يكتبون ويتكلمون عنها , بل علينا الاعتراف بأن جزء كبيرا من المجتمع وحتى ذوي التحصيل الدراسي العالي , ما زال منوما مغناطيسيا ويسير أعمى البصيرة وراء ما تنطق به المرجعية سواء شيعية كانت أو سنية , فقد انتزعت منه الثقة بالنفس ونشئ ضمن بيئة تثقيفية خلقت منه إنسانا مهزوزا , يخشى إبداء رأيه بصراحة ودون تردد أو ريبة .
بات لزاما كسر طوق ثقافة صناعة الأصنام وتمجيد الأنام , وتثبيت مبدأ الكل سواسية دون امتيازات إلا تلك المكتبسة وليست المورثة والمنتزعة بعباءة الدين , فضلا عن العمل لوضع نهاية لصفة المغالات التي هي أحد أهم طبائع العراقيين, فهم يغالون في حزنهم وفرحهم وفي فعلهم وكلامهم , وهي صفة لا تعد بالصحية عبر تجربة عقود اتضح خلالها أن أشخاص لا شأن لهم بالدين والعقيدة , وهم من رواد الميسر والرقص على أنغام العود , ولكنك تراهم أشد الناس بأسا في ردود الفعل فيما لو شاركوا بحوار ونقاش مذهبي .
ولن يحصد دعاة التحرر والمطالبين بالعدالة ثمار ثورتهم إلا بعد تقليم أظافر الأحزاب الاسلامية التي تحصنت بقطعان الميليشيات التي تم إعدادها لغرض ترهيب الناس وزرع الخوف في قلوبهم ودفعهم بالرضا والقبول وبكل خنوع لما يقدم لهم من فتات .
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست