على مر القرون، كانت أيرلندا دولة مبنية على التمرد والصراعات بين الأيرلنديين، الذين سعوا لتحرير وطنهم من التاج البريطاني، وبين إمبراطورية تطمح إلى تشديد قبضتها على مناطق متعددة في كل قارة. يكاد يكون من المستحيل التحدث عن الكفاح الأيرلندي دون دراسة الاستراتيجيات الاستعمارية، التي استخدمتها بريطانيا على الأراضي الأيرلندية.
استغلت الإمبراطورية الموارد الطبيعية، البشرية، والاقتصادية لأيرلندا، إذ مثلت هاته الأخيرة منجمًا لريطانيا؛ فقد زودتها بمواد خام رخيصة، وكانت سوقًا للبضائع البريطانية. عسكريًّا، مثل الجنود الأيرلنديين 42% من الجيش البريطاني، وهذا يعد عددًا خياليًّا. حاولت بريطانيا جاهدة التفريق بين الطوائف الدينية، وإثارة النعرات بينها، وذلك من خلال دعم حزب ألستر الوحدوي الذي خيَّر التبعية والمعايير البريطانية على الاستقلال. وبذلك، كان على هاته المقاطعة أن تساهم بشكل ملحوظ في قوة الجيش البريطاني، مما خلق علاقات عدائية بين البروتستانت والكاثوليك، الذين فضلوا القتال لنيل دولة مستقلة وموحدة لكل الأيرلنديين.
واحدة من أخطر أساليب الاستعمار المستخدمة في أيرلندا هو الاستعمار الثقافي أو الإمبريالية الثقافية. وهو شكل من أشكال الاستعمار الذي شهد النور في القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، وهو ما يطلق عليه أيضًا بما بعد الكولونيالية Postcolonialism؛ فقد نقلت القيم الإمبراطورية البريطانية من خلال المسرح الأيرلندي والسينما الناشئة. واستخدمت كذلك الرياضة لفرض النفوذ البريطاني في أيرلندا، حتى الترفيه ووسائل الإعلام جندها البريطانيون من أجل الوصول إلى أغراضهم الإمبريالية والاستعمارية. كل هاته الأساليب كانت وسيلة لتشكيل الرأي العام الأيرلندي دون وعي في صالح البريطانيين، الذين نجحوا في تحويل أيرلندا الشمالية إلى نسخة مطابقة للأصل من الإمبراطورية، إذ بني العديد من المعالم الأثرية في أيرلندا الشمالية لتخليد ذكرى الأبطال الذين قدموا حياتهم «للقضية الإمبراطورية». حثت كل هذه المعالم والمباني الأيرلنديين من البروتستانت على حضور المهرجانات الملكية والإمبراطورية؛ لتقديم فروض الولاء والطاعة لمستعمريهم.
كما سمحت الداروينية الاجتماعية «للمتحضر» بالتدخل في شؤون «الهمجيين» لتحسين أوضاعهم. وهذا يعد تصريحًا واضحًا لاحتقار الأيرلنديين من طرف «علماء» ذلك العصر، والذين يمكن وصفهم كمثقفين ملتزمين بخدمة «القضية الإمبراطورية». وفقًا لأنتونيو غرامشي، يمكن تصوير هذه الحجج على أنها «هيمنة ثقافية»، تعمل لخدمة السلطة والسياسة. فمثقفو السلطة، مثل داروين وسبينسر، دعموا القوة المهيمنة من خلال كتاباتهم التي عملت كأبواق دعائية لصالح الإمبريالية. في تناقض مع داروين، فإن المثقف العضوي، وفقًا لمنهج غرامشي، هو الذي يساعد المضطهدين داخل مجتمعه أو خارجه، دون التفكير في عرقه أو مذهبه الفكري، فهذا النوع من المثقفين مستعد للتضحية بحياته من أجل الانتصار للمستضعفين والمظلومين من خلال السعي لتحقيق حرياتهم وكرامتهم. ظهر العديد من المثقفين العضويين الذين اعتنقوا القضية الأيرلندية، خلال القرن التاسع عشر، داخل أيرلندا وخارجها.
من أمثلة المثقفين العضويين روبرت إيميت، الذي كان شابًّا وطنيًّا مثاليًّا، والذي قاد تمردًا في عام 1803 في شوراع دبلن ضد الحكم البريطاني، ولكنه فشل في مهمته. أنقذ إيميت تمرده بإلقاء خطاب من قفص الاتهام، ألهم به أجيال المستقبل لمواصلة القتال من أجل حريتهم، ولكي تفتك أيرلندا بمكانها بين أمم الأرض. حفز خطابه روحًا جديدة في أيرلندا، ومهد الطريق للعديد من حركات التمرد والعصيان؛ فظهر بعده نخبة من الديكولونياليين كدانيال أوكانيل، وشارل ستيورات بارنال، وإيدموند بيرك، وغيرهم من القوميين الذين ثبتوا الهوية والثقافة الغالية الأيرلندية، وعملوا على تحرير شعبهم من الخنوع والعبودية عن طريق أساليب كفاحية مختلفة، منها السلمية، ومنها المسلحة.
إن سردية عبء الرجل الأبيض التي قدمتها الإمبريالية البريطانية، أنتجت مفهوم الأيروفوبيا، إذ صنفت هاته الخرافة الأيرلنديين على أنهم معروفين بعنفهم وهمجيتهم وإدمانهم للخمور، ولكن كل ما فعله الاستعمار البريطاني هو تقوية جهود الأيرلنديين وتثبيت عزائمهم في جميع أنحاء العالم لنيل الحرية، وبهذا قدمت كل هاته السياسات أرضية خصبة لظهور وانتصار القومية الأيرلندية التي حققت جزءًا من هدفها عند إنشاء جمهورية إيرلندا المستقلة.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست