دعونا نتفق أن المصريين هم أهل السبق في أي اختلاق وليس ببعيد أن يكونوا هم مختلقوه وناشروه والمعتقدون فيه، كما رأينا مواقع التواصل الاجتماعي وهي تمتلئ بهاشتاج #عبث ملحق بأي كلمة في أي مجال وبأي وسيلة، و #عمق .. إلخ. ونحن الآن بصدد الحديث عن أحد الاختلاقات المثارة على شبكات التواصل لكن المشكلة كل المشكلة أنها ليست كما عبث وعمق وتبًا. لكنها تتابع حقيقي لموضة إظهار الحنكة والفلسفة؛ إنها تشكيك عقائدي ومسألة وجود وأشياء هي كل الأشياء!
قديمًا كنت إذا تحدثت مع ملحد فستجده مُلمًا بوجودية ديكارت وتكذيبية بولر ولاهوتات كانط فاختلط على عقله المجرّد الأمر، أو أنه قرأ نقود العقل ومطلع على الأديان المقارنة أو اهتم بالفلك بمادية ورأى أن الموجب للحياة والموت هي فقط طبائع الأشياء وحركات الأفلاك، أو حتى اعتقد في الماركسية بماديتها الجدلية والتاريخية التي هيمنت طويلًا حتى سقوطها المدوّي أوائل العقد الأخير من القرن العشرين.
وقد يكون آمن بالعلمانية ونزع القداسة عن كل المقدسات ولا يؤمن إلا بالمادة مصدرًا للمعرفة ولا يعتمد إلا على الحواس لتحصيل هذه المعرفة، وقد يكون باحثًا فيزيائيًا جافًا واعتقد في قوانين نيوتن التى أدت لسيادة النظرة المادية وصار ينظر للنظام الشمسي بل وإلى جسم الإنسان باعتبارهم ساعة زنبركية مثلًا وتترك للعمل تلقائيًا دون وجود إله ـ ناسيًا أن نيوتن نفسه كان معتقدًا في الدين ومسيحيًا ورعًا يؤمن بنبوءة المسيح .
ولاشك أنه سيهلع لو أدرك الآن أن إنجازه العلمي هذا يقوّض الدين ويدعو للادينية ـ وقد يكون سبب انتشار الإلحاد هذا نجاح العلم في التنبؤ بالظواهر الطبيعية وبكثير من نواحي الحياة فتلاشى أمام أعينهم دور الإله ولم يعد هناك مبرر لوضع منظومة أخلاقية عُليا بل ارتبطت القيم الأخلاقية بمصالح البشر المادية العاجلة.
كان يمكن على أي حال تقبّل هذه الأطروحات في وقتِ العقل اليوناني وفلسفته الذي نزع القداسة عن الكون ـ كي يستطيع دراسته ونسي ألا ينزع القداسة عن خالق الكون ـ أو في وقت العقل المسيحي الغربي الذي أُغلقت أمامه أبواب المنهج التجريبي وحُرم على العلماء الاشتغال بالعلوم التجريية لفترة طويلة واعتبروها اشتغالًا بالدنس وهرطقة، ففر أصحاب العلم وقتها من محاكم التفتيش إلى الإلحاد. فكانت الفلسفة الإلهية والمثالية والفلسفة المادية واللاهوت الغربي هو ما أدى بالضرورة لكثير من معالم الإلحاد.
أما وقد جاءت الرؤية الإسلامية للكون توضيحًا أن العالم ليس دنسًا وإنما هو خلق الله والإنسان مُسخر لاكتشاف كل معالم الكون وعمرانها وقد جُعل العلماء هم الأكثر خشية لله، واستوعبت نظرية المعرفة الإسلامية كل مستويات النظر.
كذا استوعب الخطاب القرآني كل مستويات المخاطبين “أهل الحكمة والبرهان، أهل الموعظة من جمهور المخاطبين وعامتهم، وأهل الجدل الذين يقفون بين الخاصة والجمهور”، ولم يكن الإسلام يومًا روحيًا مجردًا ولا جسدانيًا جامدًا بل إنسانيًا وسطًا، لذا توافر له ملاءمة للفطرة البشرية، ولا اختلاف أبدًا بين العلم والمنهج العلمي والدين على أي حال، لذا لم نجد لفترات طويلة جدًا انتشارًا لفكرة اللادينية أو الإلحاد.
أما حديثًا وقد صار الإلحاد موضة عارمة، انتشرت بشكل مفرط غريب جدًا لا أجد له تبريرًا إلا أن موضة الثقافة والقراءة التي أدت لاشتغال كل فرد في أشياء لا يملك من الرؤية والموضوعية والبنية السوية ما يؤهله للتفكير فيها أصلًا، نهم بدون إعمال عقل فسيّطرت تُخمة معرفية وملأت الأفواه بأن “الدين أفيون الشعوب”، أو هام كل فرد على وجهه في الأرض يُشيع مقولة فيلسوف الإلحاد نيتشه: “هل مات الإله؟!” يستيقظ أحدهم من نومته وقد اقتنع أنه لا إله للكون.
وإذا استفسرت منه عما أدى لذلك، فيملؤ ثغره أنه عقله. إذن حدثني بالعلم قليلًا؟ لا علم، حسنًا فلنتخاطب بالمنطق وبالفلسفة، أو حتى وضح لي ما الذي أدى لتفكيرك هذا فلا تجد غير مواقع النت التي اجتذبته ولم تقِ مداركه بعد بالعلم القومي ولم يتحصن عقله بالوعي الفكري الإسلامي ولم تتهذب وجدانيته بالتربية الإسلامية، وهنا أنا لا ألوم على من وقع في هذا المحيط الواسع غريقًا وهو ليس على دراية وليس لديه من المهارة للتعامل مع المحيطات وعواصفها، بقدر ما ألوم على ثقافة مجتمعية كاملة علّمت الدين بطريقة منغلقة تمامًا رافضين أي منهج أو علم أو منطق، معتنقين أسلوب “هوّا كده” وكأنهم يدَّعون وحدهم الفهم عن الله عز وجل.
ناسين تمامًا أن القرآن قد تعرّض لوجود فئة كهذه في كثير من المواضع “أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون”.
نحن نواجه بلا تهويل مشكلة حقيقية تمسنّي وتمسك وتمس كل من حولنا، فنرى ريتشارد دوكنز كبير الملاحدة المعاصرين وهو يرسم خطة العمل قائلًا: إذا كانت القطط لم تمثل قطيعًا بعد فإن أعدادًا معقولة منها تستطيع أن تصدر ضوضاء مزعجة لا يمكن تجاهلها.
والضوضاء هذه لاحظناها بفرطة الآن واختلفت وسائلها وتعددت مسمياتها ولم تكن فقط حثًا على اللادينية بل اتخذت مسارًا قويًا في التشكيك في أمور بالدين، وحين يبدأ الشك في أمور دينية سيستمر ليصل لشك في وجود دين أصلًا.
ويقول ستيفن واينبرج عالم الفيزياء: “ينبغي أن يفيق العالم من كابوس الديانات الذي طال، ينبغي علينا كعلماء أن نفعل أي شيء لنخفف من قبضة الدين، ولاشك أن هذا سيكون عطاؤنا الأكبر للحضارة”.
هذا سيكون أكبر عطاء له للحضارة؟ سينسى العلم ويمحور حياته تمامًا على تخفيف قبضة الدين!
ختامًا، أنا أؤيد بشدة الشك المنهجي الذي هو السبيل إلى اليقين، ولا عيب في أن يكون أحدٌ منا قلقًا إزاء بعض من نقاط الإيمان الديني، مادام متخذًا أسلوبًا صحيحًا.
الخوف كل الخوف أنْ بدلًا من أن أستيقظ على رسالة صباحية من صديقتي تستفسر عن عالمٍ في العقيدة كي تستفسر منه عن شيء ما يؤرق تفكيرها، أن أستيقظ على منشورٍ صباحيّ يُخبر هل ألحدتَ اليوم؟
فلنحذر الطوفان يقترب.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست