اشتعلت منذ عام ويزيد الأزمة في أوكرانيا بين فريقين أوكرانيين، يرعى كل منهما مصالح فئة محددة، فريق يرعى مصالح روسيا، والآخر يرعى مصالح أمريكا وأوربا،  ونشأ عن تعارض المصالح هذا حرب أهلية مسلحة، وقف خلفها الطرفان: روسيا والغرب بالدعم السياسي والعسكري والإعلامي.

لكن حين وصل الأمر للتوغل الروسي بالقوات المدرعة لصالح فريقها، ومن ثم إعادة نشر صواريخ الدفاع الجوي؛ لحماية هذه القوات المتوغلة، وأيضًا ضمّت روسيا إقليم القِرَم إليها، ولهذا دلالة تاريخية! وتطور الأمر إلى طواف القاذفات الروسية الاستراتيجية فوق بريطانيا، والتسلل بالغواصات النووية في مياه السويد، حين وصل الأمر إلى تلك الذروة التي ليس بعدها إلا الانفجار؛ كان على الغرب أن يفكر جيدًا قبل إشعال فتيل تفجير شهوة الدم في وعي رجل مخابراتي قمعيٍّ مهووس بإعادة مجد روسيا القيصرية كبوتين!

بدأ الغرب بتقويم قوته إلى قوة روسيا، ودولة المواجهة الأوروبية مع روسيا جغرافيًّا وتاريخيا هي ألمانيا، حينها وجدت ألمانيا أن قواتها المدرعة واهية ضعيفة جدًّا لا تصلح للصراع على الأرض، وأعادت إطلاق مشروع تطوير وإنتاج دبابة قتال رئيسة بالشراكة مع فرنسا؛ بعد أن أعادت شراء دباباتها المستعملة خارج أراضيها من طراز «ليبوبارد2»، لكن في الوقت الذي أعلنت فيه ألمانيا عن برنامجها الجديد للدبابات كانت روسيا جاهزة بجيل جديد من الدبابات والمدرعات، هو «أرماتا» الدبابة الماموث! مع تطوير كامل جديد لمدرعة المشاة الرئيسية، وهي «البي إم بي 3».. مما يعني أن أي حرب برّية مفاجئة مع روسيا على أرض أوروبا ستنتهي حتما لصالح الدب الروسي، وبضربات كاسحة مدمرة!

وفي أثناء انتشار تقارير عن سوء حالة القوات الجوية الألمانية، وحاجتها إلى سنوات للتعافي بعد انتهاء عُمر أغلب مقاتلات «تورنيدو» وتراجع الحكومة الألمانية عن شراء مزيد من الـ«يوروفايتر تايفون» وتراجع جاهزية الطائرات النفاثة والمروحية عمومًا لتصبح قادرة على الصراع، كانت روسيا تنافس على عقود تصدير مقاتلات وقاذفات «السوخوي» للخارج، وتشرع في تطوير مقاتلة جيل خامس جديدة، فضلا عن أسطولها السابق والقوي من المقاتلات، والمقاتلات القاذفة التي تضمن لها السيطرة في المعارك الجوية إذا اشتعلت حاليا، في حين أن أقرب مقاتلة قاذفة ستأتي لسد فجوة التسليح الأوربي خاصة ألمانيا هي «إف 35» الأمريكية لم يزل أمامها وقت طويل حتى يتم نشرها في أوربا.

وإذا كانت روسيا إمبراطورية ذات قوة برية بالدرجة الأولى فكان لابد لأوربا وأمريكا ذوي القوة البحرية بالأصالة أن يسعوا في تحجيم نمو القوات الروسية البحرية؛ حتى يقللوا من خطورة الصراع المتوقع وخسائره، ورغم أن فرنسا كانت تخالف أمريكا تماما في سياسات الحرب على الإرهاب (قتل المسلمين)، وهي ألطف منها كثيرًا حاليا في ذلك، إلا أنها لم تمانع من الانصياع لرغبة أمريكية واضحة في عدم تسليم سفينة الإبرار وحاملة الطائرات البرمائية ميسترال إلى روسيا، وبذلك أجلت مؤقتا التفاف القوات الروسية على سواحل أوروبا الغربية حال نشوب حرب حقيقية كاسحة.

بالطبع الآن فرنسا أكثر لينا في يد أمريكا في الحرب المزعومة على الإرهاب؛ بسبب هجمات باريس التي نفذتها «داعش» – عروس الـ CIA الخشبية التي يرقّصها على مسرح الأحداث- ليحشد الجاهلية كلها ضد الإسلام! وفرنسا الآن على استعداد لتسليم ميسترال لروسيا شرط استخدامها ضد سوريا وتركيا؛ وظهر ذلك جليا في تأخير مفاوضات بيعها لمصر من قبل فرنسا، وتأخير مفاوضات بيع مروحيات «كا 52» الروسية لمصر، والتي كانت ستحصل عليها من روسيا لتستخدمها على الميسترال، يبدو حقا أن تفجير الطائرة المدنية الروسية فوق سيناء بالتزامن مع تفجيرات باريس قد أدى للتقارب الفرنسي الروسي من أجل ذبح المسلمين في الشام!

حتى أن القنابل الروسية التي تنزل على رؤوس الأبرياء في الشام صار مكتوبا عليها بالروسية «من أجل باريس» وأصدر بوتين أوامره لقواته الجوية بالتعامل مع القطع البحرية الفرنسية في المتوسط بصفتها «حلفاء» كما أتت فرنسا بحاملة طائرتها «شارل ديجول»؛ لتبرك على أنفاس الثوار السوريين، وتستمر في قصف الثوار الذين يقاتلون بشار تحت ستار قصف «داعش» المزعوم!

كل هذه الاحتياطات والمؤامرات التي شرع فيها الغرب لم تكن كافية لوأد مخاوف نشوب حرب عالمية ثالثة على أراضٍ أوروبية، لذلك كان لابد من إزاحة الحرب بعيدًا عن أوربا حتى تتجهز لها، لابد من اتباع السياسة التاريخية التي يمارسها الغرب مع روسيا، وهي: «سياسة الاحتواء والتطويق Containment-Encirclement» وإذا كان الدب الروسي قد بلغ طمعه في وعاء العسل الأوربي منتهاه، فلابد من إغرائه بوعاء عسل آخر يتلهى به حتى تستعد له أوروبا، فإما يتخمه الإناء الجديد فيهدأ قليلًا –والاستعماري لا يهدأ في الحقيقة، روسيا كان أو أمريكيا أو بريطانيا أو فرنسيا أو أيا كان- أو يضعوا له السم في العسل فيموت بعيدا ويتقوا رفسات موته الأخيرة وعنفوان ضربات خروج الروح!

لذلك كان الحل الأوحد، هو: إزاحة الصراع إلى الشرق الأوسط. سوريا وتركيا تحديدًا!

وترى الآن وقوف الغرب مع تركيا سياسيا وإعلاميا في أزمة إسقاط الطائرة الروسية، لكنه بالتأكيد ليس من أجل دعم أردوغان، ولا لمصلحة المسلمين في تركيا، ولا في سوريا!

بل لقد أدمنت دول الغرب الاستعمارية دعم تركيا في وجه روسيا حتى أيام الدولة العثمانية «حرب القِرَم 1853- 1856»؛ فقط لتوقف المد الروسي على أوربا – لاحظ أن روسيا الآن قد ضمَّت القِرَم بالفعل-وذات السياسة اتبعتها دول الغرب الاستعمارية أيضا حين دعمت الصين منذ 120 سنة في وجه التمدد الاستعماري الياباني قبل الحرب العالمية الأولى، والآن ستدعم اليابان في وجه التمدد الصيني!

وانظر ما قاله جمال حمدان في «استراتيجية الاستعمار والتحرير، ص 123،122» عن سياسة الغرب (فرنسا وبريطانيا آنذاك، والآن تضاف إليهما أمريكا) مع الصراع الروسي التركي بعد حرب القرم: «وسرعان ما أيقنتا وحدة مصالحهما الاستراتيجية العميقة ضد الروسيا وبالتالي مع تركيا. ومن حينها أصبحت سياستهما المشتركة المتصلة هي تدعيم تركيا وحقنها بكل المساعدات الحربية والسياسية لتكون درعًا ضد توسع الروسيا ونطاقًا صحيًّا حولها. والمغزى الاستراتيجي واضح كل الوضوح: في صراع القوى البحرية (فرنسا وبريطانيا) ضد توسع قوة البرّ (الروسيا) ، كانت قوة بينية (تركيا) هي أرض المعركة الطبيعية، ولما كانت هذه مهددة بالسقوط أمام قوة البر فقد اجتمعت قوى البحر لتسندها وتدعمها».

وتكرر هذا الدعم الأوربي للدولة العثمانية في مواجهة محمد علي، لكن هذه الاستراتيجية بالطبع لابد أن تطمع في تركيا ذاتها لتضمها تحت جناحها يومًا، وقد كان ـ وهو لابد منه ـ المطمع النهائي للغرب في تركيا!

الغرب يشغل روسيا بتركيا، وربما قريبا بالسعودية وقطر على أرض الشام وأرض الجزيرة العربية ويستنزف الجميع! لا لشيء إلا ليشتري الوقت حتى تستعيد الجيوش الأوربية قوتها المدرعة والجوية؛ لتصبح قادرة بذاتها على صد هجمة روسية متوقعة بغرض الاستيلاء على شرق أوربا أو ربما كلها، ولا بأس لأوروبا أثناء التقاط أنفاسها من تدمير المسلمين وحرق الشرق الأوسط على يد روسيا وإيران!

لتعود أوروبا إليه بعد إنهاكه فتستعمرة مرتدة عن النيوكولونيالية إلى كولونيالية كاملة متوحشة متعطشة ربما للاستعمار البشري الإحلالي أيضًا! تعود لتتجمع كل أسافينها الغربية في المنطقة العربية في شكل إسرائيل الكبرى!

وإيران لاشك لاعب أساسي في تلك المسألة، فسواء إيران أو تركيا هما دولتان حاجزيتان بين دول قوية متناحرة تسعى للوثوب على بعضها في أية لحظة، والدول الحاجزية لابد لها من المضاربة في مواقفها بين الكتل المجاورة المتناحرة كما يضارب المستثمر في البورصة بأسهم الشركات المختلفة.

وكما أن إيران ترى مصالحها في المضاربة، فإن روسيا ترى إيران ممرها التاريخي إلى بلاد العرب؛ قال حمدان أيضا في كتابه سالف الذكر ص124: «وفي قت ما اعتبرت السياسة الروسية أن المنطقة الواقعة جنوب القوقاز وفي اتجاه الخليج الفارسي هي الأطماع الشرعية لها، وأن إيران هي (قناة السويس الروسية) وأن لابد لها من (ممر) إلى الخليج الفارسي [العربي]».

ذلك أن الغرب استعماري بطبعه، لكن استعماريته خارجية تتعدى حدود سُكنى الرجل الأبيض، لا يسمح أبدًا بحدوث أو استمرار الاستعمار داخل أوربا من خارجها، ولا بين بلادها بعضهم بعضا، ما كانت أوربا لتسمح ببقاء العثمانيين في تخومها الشرقية، ومن قبلهم، لم تكن لتسمح ببقاء الأمويين في غربها، ولقد كان هتلر ذاته فتى أغلفة المجلات الأوربية والأمريكية، بل لقد أرسلت أمريكا له فورد: أسطورة صناعة السيارات؛ ليتشاور معه في عدة مشروعات ويدعمه فيها، لكن حين بدأ هتلر باستعمار أوروبا اشتعلت أوروبا وأمريكا ضده، وكانت الحرب.

لم يكن غريبا وجود الخبراء الروس والسلاح الروسي والقناصة الروس مع جيش بشار منذ بداية الثورة على نظامه، لكن الغرب لم يكن ليسمح لروسيا بالتدخل في سوريا، ويُعطي لها موضع قدم بين ثروات الشرق الأوسط، ويسمح لها بتواجد علنيِّ سافر على أرضه؛ للمشاركة في ذبح المسلمين، إلا حين بدا الخطر الروسي واضحا على أوربا، ووجب على الغرب التضحية ببعض المكاسب خارج أراضيه؛ ليحمي نواته وكيانه الأصلي، وحينها دخلت روسيا إلى المسرح السوري علانية بطيرانها وقواتها المدرعة، وأعلنت عن وجود أساطيلها على سواحل اللاذقية، وبدأت القصف والتوغل، ومعها بالطبع إيران كانت لا تعترف بتدخلها في سوريا علانية فصارت تفاخر وتعترف، كل هذا تزامن مع إنجاز اتفاقها النووي مع الغرب! هي إذا خديعة الإنهاك الغربي لروسيا واستخدام ذيلها الشيعي في سحق المسلمين.

وكذلك فإن الغرب وإسرائيل يسعيان حثيثًا لإعلان دولة كردية جديدة في الشمال السوري على تخوم تركيا، لتنضم لاحقا للدولة الكردية في شمال العراق وتسحب النطاق الكردي من جنوب تركيا مكونة «كردستان الكبرى» التي تحدثت عن تاريخها ومستقبلها باستفاضة في كتابي «سوريا متجر المسك الأحمر»، بل لقد سارعت روسيا ذاتها بالتضامن مع إسرائيل في دعم إعلان تلك الدولة الكردية للتشويش على مشروع منطقة الحظر الجوي التركية شمال سوريا، يعلنون الدولة الكردية لتكون إسفينًا جديدًا يمنع تكوُّن وحدة المسلمين الأتراك مع العرب، كما أن إسرائيل هي الإسفين الأول الذي منع تكون وحدة المسلمين العرب الآسويين و الأفارقة.

تركيا تنمو وتزداد سيطرة المحبين للإسلام فيها، قوتها العسكرية والسياسية تنمو وتزدهر، تدعم الإسلاميين والقوميين المهادنين للإسلام العرب! تملأ الفراغ السياسي والعسكري لعراق صدام حسين بصورة فاعلة أفضل، أقرب إلى الإسلام وتخلو من قمعية صدام وجنونه وشدة جنوحه إلى العالمانية. إذا لابد كما اختار الغرب إنهاك روسيا حماية لنفسه، فلابد أن يضرب عصفورين بحجر واحد وينهك تركيا بروسيا وإيران.

وكما أعطى الغرب الضوء الأخضر لصدام في غزو الكويت؛ ليستدرجه ويفنيه فإنه يعطي الضوء الأخضر لأردوغان في عمل منطقة حظر جوي في المناطق التركمانية والكردية شمال سوريا، وليشتعل الصراع الروسي/الإيراني مع تركيا علانية رويدًا رويدًا.

فالآن روسيا حركت قطع بحرية مختصة بالدفاع الجوي إلى سواحل اللاذقية بمدى يطال الطائرات التركية، حتى قبل أن تدخل المجال الجوي السوري، وستنشر بطاريات  s400 في قواعدها الجوية بسوريا، أما تركيا فقد حركت قواتها المدرعة في مواجهة الحدود السورية، وكثفت من دورياتها الجوية على الحدود، والتوتر يتصاعد، وإن لم يحدث اشتباك عسكري بعد؛ فإن عض الأصابع قد بدأ فعلا حين اجتمعت الحكومة الروسية صبيحة إسقاط الطائرة؛ لتجمد كل المشروعات الاقتصادية المشتركة مع تركيا، والتي تتجاوز قيمتها 30 مليار دولار، وبدأت السلطات الروسية بالفعل في القبض على رجال الأعمال الأتراك وترحيلهم.

وبالمناسبة هذا الخبر أيضًا يصب في صالح إسرائيل؛ لأن الإعلام العبري يطير بتصريحات لمسئولين روس عن انفتاح في استيراد منتجات المستوطنات الإسرائيلية بدلا من المنتجات التركية، وهذا يحل إشكالية ركود منتجات المستوطنات؛ بسبب حملات المقاطعة الشعبية والناشطية المتصاعدة للمنتجات الإسرائيلية التي بدأت منذ العدوان الأخير على غزة ولا زالت تتصاعد!

فهل يقع أردوغان فيما وقع فيه صدام؟ أم هل يجيد أردوغان اللعبة حتى يحصل على ما يريد، ويستغل الدعم الغربي؛ لتقوية مركزة ودولته وحزبه دون الوقوع في خديعة الغرب؟ هذا ما ستخبرنا به الأيام.

 

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

علامات

تركيا, روسيا
عرض التعليقات
تحميل المزيد