على الرغم من أن هجوم لندن، الذي تبناه تنظيم داعش مؤخرًا، ليس الأكثر دموية، أو تنظيمًا، بين العمليات التي تبناها التنظيم ويتبناها كل يوم في شتى ربوع الأرض، إلا أنه حمل تصعيدًا نوعيًا جديدًا في مشهد الوجود الداعشي في أوروبا والعالم، وشكل همزة وصل لفهم الاتجاه المرتقب في السنين المقبلة لشكل التنظيم، وماهية تحركاته في أوروبا، والهجمات التي يتبناها.

التنظيم يتكبد الآن خسائر فادحة حقيقية في العراق، منذ بدء عملية الموصل، وتكثيف الوجود الأمريكي في العملية بعد وصول دونالد ترامب لسدة الحكم، وجدية القوات العراقية في استئصال داعش من المدينة، خسائر رُجحت بأن تبلغ 65% من مناطق وجود التنظيم وانتشاره في الموصل.

الإنزال الجوي الأمريكي الجديد، في ريف الرقة، عزز مخاوف التنظيم بلا شك، في خسارة معقله الأساسي، وبيئته الأم؛ ما دفع إلى ضرورة إحداث تغيير نوعي سريع، وتأكد من حيازة مفاتيح اللعبة بأكملها، وتغيير للميدان، لتوسيع دائرة الانتشار السرطاني للتنظيم، وهذا ما تفعله العصابات العالمية بعد استدراجها لمعارك أقوى منها عتادًا وأكثر منها جدية.

بينما يتجه العالم أجمع لمحاربة التنظيم في سوريا والعراق، يتجه التنظيم بقوة إلى أوروبا، وبدلًا من أن تكون القارة العجوز مجرد حاضنة لأفراده واجتماعات كوادره، ستكون مسرح الاتجاه الجديد للتنظيم، وهذا ما أماط اللثام عنه بقوة هجوم لندن.

يجب أن نعلم قبل أي شيء أن داعش تعدى مرحلة الصنيعة المخابراتية، وأصبح سرطانًا حقيقيًا ينتشر دون ضوابط ولا آليات محددة في عواصم العالم كافة، وبالتالي فلدى التنظيم من العشوائية والمرونة الحركية؛ ما يجعله يتبنى عمليات لم يخطط لها سلفًا، ويمنحه قماشة أوسع للعمليات النوعية البسيطة، وما جرى في لندن كان عينة على ذلك، فقد بدا – في تحليلي- عملية اغتيال فردية لرئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، أحد رموز الكفر ومعاداة الإسلام في نظر داعش وكثيرين.

المنفذ بريطاني، مسلم، ذو ميول متطرفة، خضع لتحقيق الشرطة قبل فترة، هذا ما قالته تيريزا ماي، قبل أن يتبنى التنظيم الهجوم بعد مرور يوم عليه.

دعنا نحلل تلك المعلومات السطحية، بريطاني مسلم، يستقل سيارته برفقة 4 مساعدين، يتوجه عبر جسر ويستمنستر ليصل لمقر البرلمان البريطاني، قبل استعداد نوابه لكلمة تلقيها ماي، يطعن شرطيًا ونائبًا، يبدأ إطلاق النار، يركض، تتبعه الشرطة حتى ترديه قتيلًا.

كل هذه تفاصيل توحي بحالة من العشوائية –التي لا تميز خطط عمليات التنظيم في أوروبا تحديدًا- حيث تكون العمليات أكثر دقة وتحديدًا ومراعاة للسياق الأمني الأوروبي المحترف، وهذا ما اتضح من هجوم إسطنبول مطلع العام الجاري، وكذلك هجمات برلين وبروكسل وباريس.

أن يستقل بريطاني سيارته مستلًا سكينًا ليهاجم البرلمان البريطاني، هذا ليس صنيعًا من داعش، لكنه قد يكون تحركًا فرديًا يفسح التنظيم لمحبيه حول العالم أن يقوموا به، وإن نجح تبنوه لتكريس الخوف الإعلامي، وهذا ما حدث في لندن قبل يومين!

لا يمكن إغفال تفصيلة مهمة أيضًا، هو أن الهجوم جاء في ذات اليوم الذي قادت فيه أمريكا ترامب أول مؤتمر عالمي للقضاء على تنظيم داعش، رسالة واضحة إلى التيار اليميني الآخذ في التنامي عالميًا، هذه رسالة لا تأتي من مجرد محبّ، وإنما من تنظيم يريد رد صاع الخوف صاعين، وإحراج ترامب ومن معه أمام العالم أجمع، ففي اليوم الذي يجتمعون فيه للقضاء علينا، نحاول اغتيال واحدة من أبرز حيتان اليمين المتطرف حول العالم وفي أبهتها بعد نجاح البريكست.

إذن، فهجوم لندن، كان عشوائي التنفيذ، لكن تبنيه، وتمرير تنفيذه باسم داعش كان مخططًا له، وهو ما يعني أن مرحلة أخرى للتنظيم تلوح في الأفق.

التنظيم يلملم أوراق خسائره في الشرق الأوسط، ليطرحها بعنف على الساحة الأوروبية، التي تعج الآن بآلاف المحبين له، من الأوروبيين ذوي الأصول العربية، واللاجئين، بل من الأوروبيين الأصليين، الذين أشارت العديد من التحقيقات والتقارير إلى أن فكرة التطرف الإسلامي لم تعد شيئًا يسمعون عنه فور حدوث عملية أو تفجير، وإنما صار اتجاهًا تذهب إليه قطاعات شعبية في بلدان أوروبا، من أقصاها إلى أقصاها، وهو ما أماط اللثام عنه سابقًا وثائقي الجزيرة: تنظيم الدولة في بروكسل، الذي كشف تفاصيل هامة من داخل دفاتر التنظيم، حول الأوروبيين الذاهبين إلى سوريا، والعراق، وكذلك البؤرة الداعشية في بلجيكا، وحاضنتها الدافئة الأمينة في حي مولنبيك بالعاصمة بروكسل.

يتيح ذلك الانتشار في أوروبا، في ظل المعطيات الحالية المليئة بالخسائر بالنسبة للتنظيم، أن يسلك المسار الطبيعي لحروب العصابات، وهي بدء الاغتيالات، العشوائية والمنظمة، وقد كان هجوم لندن من النوع الأول، وسواء نجح الاغتيال أو فشل، يكون النجاح قد تحقق مع اختلاف النسبة، فـمحاولة الاغتيال نفسها خطوة على طريق الذعر.

منحىً جديدٌ في خط سير التنظيم، ورسالة يوجهها للعالم أجمع، بأن الحروب الواسعة النطاق حتى وإن آتت أكلها في مناطقها، واختفى التنظيم –وهذا محال- في الشرق الأوسط، فإن المرونة والشراسة والانتشار السرطاني الذي يتمتع به، يستطيعان تحويل الكفة دائمًا، وتحديد الزمان والمكان، ونمط التعامل، وآليات المواجهة، هذا لأن داعش فكرة، والفكرة عندما تضرب.. توجع.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد