التطبيع مع إسرائيل موضوع شائك ومعقد، له أسباب متعددة وامتدادات متشعبة، دينية وتاريخية وجغرافية وثقافية واقتصادية وأمنية. يستحيل الإحاطة بها بشكل كامل. فكيف لمسألة بهذا الحجم أن يَنْظر فيها عقل فقيه صغير ليخرج بخلاصة: هذا رأي الدين وحُكم الشرع؟! إن التطبيع مع الدولة العبرية ليس قرارًا ينتظر شرعيةً يُضْفيها فقيه مقرَّب، ولا خطوةً تُوجِس خِيفَةً مِن فتوى داعية متطرف؛ إذ العلاقات الدولية والديناميات الجيوسياسية أكبر من أن يستوعبها رجل دين، خاصة إذا كان من الوُعاظ الذين التقطوا هذه المقولة من تراث الإمام الشافعي واتخذوها شعارًا:
كُلُّ العُلومِ سِوى القُرآنِ مَشغَلَةٌ إِلّا الحَديثَ وَعِلمَ الفِقهِ في الدين
وأَنَّى لشيخ أن يُدرك فوائد التطبيع من مخاطره على البلاد والعباد كي يطبق قواعد الفقه الإسلامي كقاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح؟ ولَمّا كان الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فالأمر مَنُوط بأجهزة الدولة المتعددة التي لها إمكانيات وصلاحيات القيام بأي خطوة في هذا الاتجاه. إلا أن هذا لا يمنع الناس من تناول الموضوع بالنقاش وإبداء آرائهم في منتدياتهم على صفحات الويب ولقاءاتهم المفتوحة.
ذلك ما تمَّ في برنامج حواري على إحدى فضائيات البِتْرودولار حيث استُدعِي ضيوف من تخصصات مختلفة، وأدلى كل الحاضرين بدلوهم إلى أن احتدم الجدال. واستمر اللجاج على أشده دون خطوط حمراء بارزة، وكان الهدفُ المعلنُ من استضافة فقيه من «هيئة كبار العلماء» داخل الأستوديو تبصيرَ الناس برأي الدين ومعرفةَ حكم الإسلام من التطبيع مع إسرائيل. لكن شيخ المجموعة، الذي إذا خاطب العامة اعتدل موقفُه وداهَنَ واسْتَكان واكتفى بقول آمنا، لا يفهم ألف باء السياسة وتمَّ تجاوزه بسرعة؛ فالمسكين كان تارة يقول لا تخلط السياسة بالدين وتارة أخرى يقول الإسلام دينٌ ودولة، بسبب تداخل محفوظاته واضطراب مصادره.
في النهاية ارتأى الظهور مسايرًا للأحداث، بعيدًا عن الجمود، مواكبًا للعصر، مُلما بفقه الواقع. ولَيتَه عمِل بحديث رسول الله «من كان يومن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت». فقد قرأ الشيخ المثير للجدل مِن ورقة علمية كان قد جهزها على عجل، قائلًا بأنه يجوز شرعًا لولي أمر المسلمين التطبيع مع إسرائيل باعتبار وجودها أصبح أمرًا واقعا يجب التسليم به، فالصلح مع اليهود دلَّت عليه نصوص القرآن والسنة. ومِن هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن آخَى بين المسلمين واليهود في المدينة، وتوفي عليه الصلاة وسلام ودِرْعه مرهونة عند يهودي. والله سبحانه وتعالى يقول (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا) الأنفال-61.
وهكذا عقد النبي صلح الحديبية مع مشركي قريش الذين أخذوا أموال المسلمين وديارهم (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ). وفي عصرنا الحاضر الكثير من أراضي المسلمين محتلة كما في الصين وروسيا، ومع ذلك يُقِيم المسلمون علاقات طبيعية مع المحتل تأسِّيًا بالرسول الذي صالح بين المسلمين واليهود في المدينة، وفي ذلك مصالحة بين المسلمين والواقع المعيش. وعليه، إذا رأى ولي الأمر أن المصلحة العامة تقتضي التطبيع مع إسرائيل فله صلاحية المبادرة إلى ذلك مؤيَّدا برؤيتنا الفقهية، وعلى الجميع الوقوف بجانبه لأن الإسلام دين التسامح والتعايش، وكفى الله المؤمنين شر القتال.
لكن في ظل المزايدات الرخيصة على غيره من دعاة التطرف الذين يُقحِمون الإسلام في معارك خاسرة، وفي خضم السجالات الصاخبة التي تعج بها بعض المجموعات الخاصة حول هذا الموضوع الساخن، صرَّح الشيخ لمريديه بما لم يستطع البَوْح به على القناة الفضائية الرسمية؛ فهو إذا خلا إلى أتباعه زكَّى تشددهم وأجج مشاعرهم وأذكى حقدهم وقال إني معكم، إذ كتَبَ تحت عنوان «باب ما جاء في تحريم التطبيع» رسالة موقعة بِاسْمِه الحركي، جاء فيها أن التطبيع خيانة عظمى لله ولرسوله، ولكي نكون واضحين ونسمي الأشياء بمسمياتها، فالمصطلح الشرعي للتطبيع مع الكيان الصهيوني هو الولاء لليهود، ولا يجوز لأي دولة التطبيع مع أحفاد القردة والخنازير الذين جُبِلوا على الغدر والفساد في الأرض لأن ذلك يمس قضية فلسطين وهي قضية إسلامية تهم العالم الإسلامي كافة.
ولا ينبغي لَيّ أعناق النصوص لتبرير شرْعَنة معاهدات الصلح مع اليهود والتطبيع مع بني صهيون، فذلك استسلام واعتراف بسيادتهم على الأرض الإسلامية المغتصبة، وما أُخِذ بالقوة لا يُسترجع إلا بالقوة، مع إيماننا الراسخ بحتمية الانتصار على اليهود في آخر الزمان، وقيام دولة الخلافة الراشدة بِبيت المقدس كما أخبر بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم. وإن كانت الدول الإسلامية غير قادرة على محاربة اليهود بجيوشها النظامية فليس لها عذر، إذ يمكنها فتح الحدود للمجاهدين الراغبين في قتال دويلة إسرائيل المزعومة، فنحن قوم نحب الموت كما يعشق أعداؤنا الحياة؛ ليس لنا إلا القتال في سبيل الله، فما ترَك قومٌ الجهاد يومًا إلا ابتلاهم الله بالعذاب، كما أن رُكن الولاء والبراء من عقيدتنا يُلزمنا نبذَ أي تفاوض مع العدو الصهيوني، فبالأحرى إطلاق مساعي السلام والهرولة إلى إبرام الاتفاقيات والتطبيع وإقامة علاقات صداقة، مما يؤدي إلى إضفاء الشرعية على كيان مفروض وتعطيل فريضة الجهاد.
فقد قال الشيخُ محمد بن عبد الوهاب: «إنه لا يستقيم للإنسان إسلامٌ، ولو وحَّد اللهَ، وترك الشِّركَ؛ إلا بعداوة المشركين، والتصريح لهم بالعداوة». واللوم كل اللوم على وُلاة الأمر الذين يسَلِّمون بالقانون الدولي، عِوَض أن يعتصموا بحبل الله يتحاكمون إلى الأمم المتحدة، والله تعالى يقول (يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ) النساء-60. فلا أرضًا حرروا، ولا مصالح حققوا؛ وما هي إلا مواقف شاذة وسيرجعون عنها.
هكذا تنقلب الفتوى رأسًا على عقب، كلام الليل يمحوه النهار! ازدواجية في المواقف وتناقض داخلي صارخ لم يستطع لسان هذا الشيخ أن يخفيه، يتملص بسهولة من موقفه الذي عبّر عنه في النسخة الأولى من فتواه، متمسكًا بِكَونه من الموقعين عن رب العالمين. والغريب في مسلك هذا الفقيه المتلوِّن أنه يستدعي كافة الاجتهادات الفقهية، حتى إذا أراد اللعب على الحبلين لا يعوزه التأصيل الشرعي بالاستناد إلى نصوص دينية تُسوِّغ آراءه، وكأن دين الله ألعوبة بين يديه. بل مَطِية للوصول إلى مآربه: بالحجة والبرهان، يتوجه ذو الوجهين بما يراه كلامًا وجيها إلى أشياعه، وما يلبث أن يغَير وجهته بتطويع الدين منحنيًا أمام إغْدَاق العَطَايا والامتيازات.
وبمنتهى العجب تم تجسيد هذا التناقض على أرض الواقع عندما دعا أتباعُ الشيخ إلى مقاطعة بضائع الدول الداعمة لإسرائيل، فأنشأوا بتطبيقات أمريكية على هواتفهم المستوردة صفحات تدعو إلى مقاطعة الدول الداعمة لإسرائيل. وتَوَّجوها بهاشتاغ «حتى نلقى الله ونحن مقاطعون» في تناغم غريب بين عقلٍ ظاهرٍ مُساير للفقيه وعقلٍ باطنٍ محب للحياة.
بهذا التفكير الزئبقي يَحدث شرخ عميق في مجتمعات المسلمين وانفصام وجداني عند المتدَيِّنين، ليس حول موضوع التطبيع فحسب، بل في كل المسائل الخلافية. حيث يعزف شيوخٌ تحت الطلب على نفس الأوتار، يتأرجحون بين القبول والاستنكار، ولا زال الحبل على الجرّار.
العِلمُ ما كانَ فيهِ قالَ حَدَّثَنا وَما سِوى ذاكَ وَسواسُ الشَياطينِ
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست