ينتشر بين المفكرين المسلمين وعوامهم أن الإسلام دين شامل، ويقصدون بالشمول ما يعبرون عنه بعبارات مثل: الإسلام دين ودنيا ودولة وأمة، وحضارة وثقافة، وسياسة وحكم، أو أن الإسلام هو الحياة والممات، وما بينهما.

 

وتأثرا بهذا المضمون السائد يعرّف الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه “الدين والسياسة” الإسلام بأنه معنى أوسع من معنى كلمة دين:

 

” ومن هنا نرى كلمة (الإسلام) أوسع دائرة من كلمة (الدِّين). ولهذا نقول: الإسلام دين ودنيا، عقيدة وشريعة، عبادة ومعاملة، دعوة ودولة، خُلُق وقوة. ” (1)

 

رغم أن المعنى اللغوي، والاصطلاحي، والاستخدام القرآني – الذي  استعرضه الشيخ القرضاوي في سبيل الوصول لهذه النتيجة – تشير له بوضوح إلى أن الدين هو الكلمة التي تمثل العائلة التي يقع الإسلام فيها كأحد أفرادها، وأن الإسلام دين مثل باقي الأديان، ولكن يميزه أنه الدين الذي ارتضاه الله لنا وأنزله علينا، وأن هناك أديان أخرى غير الإسلام – حسب تقريره هو نفسه –  وحسب نصوص القرآن الكريم التي استشهد بها.

 

ويمكن أن نضيف إلى ما استشهد به الشيخ القرضاوي:

يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ” (البقرة:131-132)

وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا” (المائدة – 3)

 

فالإسلام  – لغة واصطلاحا وكما في القرآن – هو دين من الأديان،  يتميز برضى الله عنه، وليس معنى أوسع أو أشمل من الدين.

 

والإسلام كدين يعرفه “التهانوي” على أنه:  “وضع إلهيٌ سائق لذوي العقول السليمة باختيارهم، إلى الصلاح في الحال، والفلاح في المآل”. (2)

 

أي ، بلغة بسيطة، الإسلام هو:  رسالة الله إلى البشر من أصحاب العقول السليمة، ليهديهم للصلاح والنجاح في حياتهم الدنيا والآخرة.

 

فالإسلام هو المعاني المحمولة في القرآن، وتطبيق رسول الله (ص) له في حياته،  وهو رسالة محدودة واضحة لها بداية ونهاية، وهو المعنى المشهور بين المسلمين بأن نصوص الكتاب محصورة معدودة, والوقائع كثيرة غير متناهية.

 

وهذه الرسالة وتطبيقها الحياتي قد تم وكمل في حياة الرسول نفسه ” الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ …” (المائدة- 3) ، وتعبير الكمال الذي استخدمه القرآن الكريم لوصف الإسلام يدل على أنه لا مجال للإضافة إليه أو الأخذ منه، لأن الإضافة إليه مثل الانتقاص منه، ستخلان أو تهدمان كماله الذي ارتضاه الله.

 

وقد عبر القرآن عن صفة الكمال للرسالة القرآنية بصفة الإحكام ” الر ، كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ” (هود – 1) ، فالإحكام هو الاتقان والدقة والضبط، ومن أهم ملامح الشيء المحكم وضوح حدوده وانفصاله عن غيره انفصالا دقيقا، لا لبس فيه ولا تداخل.

 

وقد استخدم القرآن هذا المعنى لوصف بعض آياته بأنها محكمه  في مقابل آيات أخرى متشابهة ” هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ أي آيات لها معاني واضحة محددة الحدود لا تحتمل إلتباسا، وآيات أخرى لها معاني مفتوحة الحدود وتحتمل عدد وتداخل المعاني والتأويلات.

 

ومعنى الجذر “حكم” في اللغة العربية يدور حول: الإتقان والضبط، ووضوح الحدود، والمنع، والتقييد، والضيق (3)  وكلها معاني تتعارض مع الاتساع وانفتاح الحدود.

 

لذلك فوصف الإسلام بأنه معنى واسع يشمل الدنيا والدولة الحياة والممات، وأنه أوسع من معنى الدين، هو مخالفة لوصف القرآن كوعاء يحمل معاني الإسلام، ومصدره الخلط بين معنى الإسلام كرسالة، ونطاق عمله وتأثيره.

 

والفارق بين تصور الإسلام كمعنى واسع يشمل كل شيء، وبين أنه رسالة محددة لكن نطاق عملها الواسع المفتوح فارق كبير وضخم، ويؤدي لخلط كبير في دراسة وفهم وتطبيق الإسلام.

 

فالإسلام رغم كونه محدودا، ولكنه مصمم ليكون تأثيره شاملا مكانيا وزمنيا،  وليس شاملا داخل نطاق حدوده أو في محتواه المعرفي، فالقرآن ليس موسوعة معلومات تشمل أحكام  وخبر وعلم كل شيء  وما حدث وما سيحدث كما هو في التصور السائد،  ولكنه كما وصف نفسه ” ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ” (البقرة -2) .
فاللوحة الإرشادية محدودة المساحة التي توضع على الطريق لهداية المسافرين، لا تحتوي كل المعلومات المرتبطة بالطريق، ولا معلومات عن كل المنشئات والأراضي الواقعة على جانبيه، واستخداماتها ومستخدميها، ولكنها تشمل التوجيه المناسب لنجاح رحلة السفر إذا أُحسن الالتزام بما فيها.

 

وعند التعامل مع هذا المعنى ، يجب التفريق بوضوح بين الإسلام كأصل ورسالة، وبين تطبيقاته واستخداماته وما فهمه الفاهمون منه. وهو أمر قليل الوجود في فكر المسلمين.

 

وهو أحد أهم التشوشات التي تميز النظام المعرفي للمسلمين منذ عصر التدوين إلى يومنا هذا، حيث يتم الخلط بين الإسلام وبين فهم الإسلام، والخلط بين الإسلام وبين تطبيقات الإسلام الحياتية، فيتعامل المسلمون مع حياة المسلمين – وخاصة في الأجيال الأولى – ومع المذاهب وفقه الفقهاء على أنها الإسلام.

 

فالبشر كلهم يعرفون أن المعارف الناتجة في عقولنا عن دراسة الشجرة، ليست شجرة، ويفرقون بطريقة واضحة تماما بين ما نعرفه ونفهمه عن الشجرة، وبين الشجرة نفسها، لكن هذا المعنى ليس واضحا في ثقافة المسلمين، حيث يتعاملون مع الفقه الإسلامي على أنه الإسلام، أو جزء من الإسلام.

 

لذا تظهر في لغتنا المعاصرة مشكلة تعدد “الإسلامات”، فهناك الإسلام التراثي، والإسلام الأصولي، والإسلام الوسطي، والإسلام المتشدد، والإسلام السياسي، والإسلام المنفح والمنغلق، وقد تبدو هذه المشكلة للبعض مشكلة لغوية، ولكنها تعبير لغوي عن  خلط بين الإسلام كرسالة سماوية وبين تطبيقاته وحلوله وفهمه.
وهذه المشكلة لا توجد في نظم المعرفة الأخرى غير الإسلامية، فدائما هناك فصل بين النظرية وتطبيقاتها، فلا أحد يخلط بين أصل النظرية وبين تأويلاها وتطبيقاتها، ولا يتصرف الدراس المتخصص في النظرية على أنه خبير تطبيقي أو له حق الإفتاء في تطبيقاتها المختلفة.

 

لكن في ثقافة المسلمين لا يوجد فارق بين الإسلام كرسالة، وبين تطبيقاته الحياتية أو مذاهب فهمه، فيُسمى الأمر الإلهي المنصوص عليه في نص قرآني “حكما شرعيا”، ويُسمى ما يفهمه الفقيه كشخص مسلم “حكما شرعيا” أيضا.  والمتخصص بدراسة الإسلام كرسالة يعتبر نفسه متخصصا  ومرجعا ومفتيا وفقيها في كل وأي تطبيق أو ممارسة تتم تحت مظلة الإسلام.

 

فرجال الدين الإسلامي – منذ عصر التدوين إلى يومنا –  اعتادوا أن يتعاملوا مع الإسلام وأثره وتطبيقاته كمن لا يفرق بين المصباح وضوئه والغرف التي يضيئها. كأنهم يعرّفون المصباح – في ثقافة المسلمين- بأنه الضوء الصادر عنه،  والجدران والأسرّة والمكاتب والمقاعد والأرضيات التي يضيئها، والأعمال التي تمت في ضوئه.

 

وأن المختص في صناعة المصابيح له أن يفتي ويصدر أحكاما وقواعد تضبط تأثيرات الضوء والظلال في الرسومات الزيتية التي تعرض بالمتاحف، وأن التطبيقات فيزياء الكهروضوئيات، وقراءة القرآن والصلوات التي تقام في ضوء المصباح هي كلها أجزاء تابعة لصناعة المصابيح.

لكن العقل والواقع والقرآن، يقولون جميعا أنه كما أن المصباح ليس هو ضوءه، ولا الغرف التي يضيئها، وأن الصلاة التي تتم في ضوء المصباح ليست جزءا من صناعة المصابيح، كذلك فالإسلام ليس هو الدنيا، ولا الدولة، ولا الأمة، ولا أي شيء مما يضيفه إليه رجال الدين المسلمين، في محاولاتهم لتوسيعه وفتح حدوده ليشمل كل شيء، ليتيح لهم تبعا لذلك أن يتدخلوا هم أنفسهم في كل شيء.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

محمد بن علي التهانوي - كشاف اصطلاحات العلوم والفنون
ابن منظور – لسان العرب – مادة حكم
عرض التعليقات
تحميل المزيد