تفجيرات، وتهجير، وقتل، ودمار، وتفكيك، وقنابل، وجثث، ونيران، يمتد كل هذا من أرض واقعنا العربي المرير، ومن فراسخه الشاسعة، إلى أدق تفاصيل كينونة العربيّ عمومًا، والعربي المسلم خصوصًا، أصبح التفجير الذي يحدث بسيارة مفخخة أو عبوة ناسفة أو غيره، بعد أن يقتل من البشر ما يقتل، ويجرح منهم من يجرح، يغزو أذهاننا وقلوبنا فيقتلنا مع كل حادث، ويهزنا هزات قد تبدو للوهلة الأولى ممضة قاسية، لكن الأمم لا تبنى إلا بتلك الهزات، وهنا نظرة خارج الصندوق.

المفاهيم التي تربى عليها العربي المسلم في هذه المنطقة كان لزامًا أن تردها أحداث جلل، جلّنا نعلم أن المفهوم الإسلامي فيما يتعلق بالنجاح، والانتصار، والغلبة، والرفعة، والتمكين، والأمن، مفاهيم تم تثبيتها في أدمغتنا دون اختبار حقيقي، كان لا بد من محكّ نختبر فيه مدى صحة هذه الأفكار.

يظن العربي المسلم أن تلكما الصفتين كافيتان لمنحه نقطة انطلاق دنيوية سابقة عن باقي الخلق، حتى وإن صعد أولئك للفضاء، واقتربوا من إعمار المريخ، وتحكموا في مصائرنا، في مأكلنا ومشربنا، وفي أدق التفاصيل اليومية التي يحياها العربي المسلم في وطنه الذي لا يعدو كونه امتدادًا صحراويًا أو بحريًا لأراضٍ يعرف غيره كيف يعمرها.

يظن العربي المسلم منّا أنه بمجرد أن يستوفي هذين الشرطين، فسوف ينتصر في الصراع العربي الإسرائيلي، وسوف يعيد الأندلس، وسوف يقوم العدل، وسوف يأتي العلماء طوعًا وكراهية لتلقي العلوم من المنطقة العربية، وسوف تأتي الجيوش لجبًا، أولها عندنا وآخرها ما شئنا أن يكون آخر، ولكن للأسف، لسنا مسلمين بما فيه الكفاية، فذاك يزني وذاك يسرق، وذاك يأكل مال يتيم، وذاك يمالئ، وذاك يظلم، وذاك وذاك..

وهنا أقولها بملء الفم، هذا منافٍ للسياق الحضاري الذي لا يتدخل فيه دين، ولا تعتركه مسلّمات.

هذا تهميش للمصلحين، وللمنورين، وللهداة، محمد -صلى الله عليه وسلم- نفسه، احتاج لتدريب رعيته 13 سنة في أقبية ودور ضيقة، كي يخرج نموذجًا حضاريًا في مكان آخر غير الذي عاش فيه، وتطلب الأمر منه الخروج فارًا من الظروف، وحروبًا لفرض السيطرة، وتدبيرًا «بشريا» بحتا، صاب فيه ما صاب، وخاب فيه ما خاب – ولا يرتابني شك في ذلك الآن-، عبقرية النموذج الحضاري المحمدي، أنه كان بشريًا، إذا أردت أن تنفي عنه طابعه البشري، فانف عن محمد أي عبقرية، انف عنه أي اجتهاد، انف عنه أي موهبة، ألم تواف المنية محمدًا، ولمّا يستتب له الأمر في قبائل العرب التي بايعته بعد الفتح، فانقلبوا على خليفته في الحكم مرتدين شاهرين سيوفهم في وجه الكتلة الحرجة التي صنعها محمد، ومهددين المشروع الحضاري كله؟!، هل أتى هذا بوحي؟ لا، لقد كان تدبيرًا بشريًا، جاء موته – باعتباره «إنسانًا»- ليؤجل خططه، ولينفذ المنطق البحت فيه، وليواجه أتباعه ما لم يواجهه هو، وليستكملوا السياق الحضاري، الذي لم يستطع محمد -رغمًا عنه- إكماله، بسبب الموت.

ألم ينته المشروع كله على يد مدبر آخر بعد ثلاثين عامًا، جاء في سياق آخر، بخطط أخرى، واستقوى بآخرين، ووأد المشروع؟، وجاءت أمم تلتها أمم؟
أنفع الإسلام «آل البيت» أنفسهم شيئًا، وهم العباد النساك؟
وهل حماهم من التشريد والقتل؟

لم يفعل!

لم، ولن ينفعنا اعتناقنا للإسلام شيئًا في حروب الدنيا، سوى أن يكون هذا الاعتناق مفتاحًا لأذهاننا على العلم، والمنطق، وعلى تفكيك المفاهيم.
أما غير ذلك، فالكل سواسية، وسنن الكون ونواميسه لن تقف عند أقوام بلهاء تخطاهم الزمن، وتخطتهم الظروف، ويظنون أن رفع الأكف في الشرفات على سجاد ملون، سوف يغير من معادلات الكون -العادلة- شيئًا.

لم يخلقنا الله كي نشذ عن الواقع، أو نديّن العلم، أو ندروش المنطق، لو لم تكن بأيادينا طاقة فلن يحدث، سوف تقفز علينا الأقوام والشعوب ولن ترحمنا، وليسوا ملامين، هذا ناموس الكون، وهذا عدل الله.

أما إسلامنا وإيماننا، فيمنحنا جانبًا آخر للعدل يتمثل في مصداقية الحساب، وهذا ليس من الدنيا في شيء.

ومن هنا، فلا أريد أن أملأ فمي مرة أخرى برنّانات «الدولة الإسلامية» و«الخلافة الإسلامية» و«الأمة الإسلامية» وكل ما حمل كلمة «إسلامية» وراءه، هذا تفريغ للمقوم الإنساني من محتواه، غضبة «حلب» لن يكون لها معنى لو ظللت ترى فيها غزوًا شيعيًا على قوم سنّة، بل هي مذابح ارتكبها إنسان في حق آخر، دون اعتبار للمشتركات الإنسانية -التي ليس من بينها الدين-.

الإسلام دين دنيا، في حدود ما يوفقنا للوثوب في قطار العلم واتباع السنن الكونية التي خلقها الله، ودين آخرة في كل ما يصلح العمل، ويريح الأفئدة الكسيرة.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

علامات

الإسلام
تحميل المزيد