كان بنو إسرائيل يصفون العرب بالأميين كما قال الله على لسانهم في القرآن: (ليس علينا في الأميين سبيل) آل عمران.
وقال الله في سورة الصف: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ).
الأميون كما في تفاسير كثيرة هم أمة العرب الذين لا يكتبون ولا يقرؤون ولا يحسبون، والأميّة ليست رديف الجهل وإنما تعني التعلم عن طريق آلة السمع، فكثير من المتعلمين تعلموا بطرق غير القراءة والكتابة وإنما عن طريق الاستماع، ولمّا كانت الكتابة هي تدوين للحقائق وتراكم العلم وبدونه يكون العلم منقوصًا، كانت أول كلمة يفتتح بها القرآن – الذي وصفه الله بأنه (هدىً للمتقين) – كلمة “اقرأ”, فالعرب لم يكونوا جهلاء وإنما كانت مصادر تعلمهم عن طرق الاستماع، فمن قويت ذاكرته كان أعلمهم، وإن كان بعض العرب ممن يحسنون القراءة والكتابة ولكن الحالة المجتمعية كانت أميّة بشهادة القرآن.
لا يمكن أن نتصور أي علم اليوم بدون قراءة وكتابة وتدوين، ولنا أن نتخيل الثورة التي أحدثها اختراع الطابعة التي نقلت العلوم إلى مرحلة مختلفة من الفاعلية بحيث يتم البناء على خبرات الأمم الأخرى.
أردتُ بهذه المقدمة التوطئة للحديث عن علم الإدارة الذي ما كان أن يظهر كما يظهر عليه اليوم وقد مورس بجميع حيثياته في الزمن الغابر لولا تطور المطابع ونشاط حركة التأليف والعصف الذهني والثورة العلمية في أوروبا في القرنين الأخيرين.
يقول علماء الاقتصاد أن الكون اليوم يعاني من ندرة في الموارد، وبدأ علم الإدارة المتمثل بجميع وظائفه (التخطيط، التنظيم، التوجيه والرقابة) لاستغلال هذه الموارد بالطريقة المُثلى (مع العلم أن الوفرة هي ما يميز هذا الكون ولكن جشع الإنسان هو ما خلق هذه الندرة).
مارس الإنسان الإدارة منذ العصور القديمة، ولك أن تتخيل دانييل ديفو في رائعته روبنسون كروز، كيف استطاع روبنسون أن يدير ما يملك من موارد في تلك الجزيرة المعزولة، إدارة لموارد نادرة، إدارة للوقت، وإدارة لأزمة فعلية عايشها بمفرده.
إن الفكر الإداري هو فكر تراكمي، فكما تطور الإنسان من تعلّم الأسماء إلى القراءة ومن ثم إلى الكتابة والتوثيق ثم إلى الطباعة التي وثّقت خبرات المجتمعات.
في العصر الحديث كان التنظير للإدارة الحديثة ابتداءً من بيتر دراكر وفريدريك تيلور مرورًا بإلتن مايو وفايول وفورد وغيرهم.
في كل شؤون الحياة تلعب الإدارة دورًا حيويًا لزيادة الفعالية والمنافسة العالمية, فأمة لا تتقن هذا العلم لا شك هي في ذيل الأمم اليوم, وأمة تمتلك إدارة فاعلة هي أمة تمتلك ميزة تنافسية عن غيرها من الأمم.
في العمل والمؤسسة والدولة، وفي كل نشاطات الحياة بلا استثناء نحتاج إلى هذا العلم الذي أصبح له نظرياته وقواعده، كمجتمع إسلامي وكحضارة إسلامية تربعنا على عرش العالم لقرون عديدة, لا بد أننا استخدمنا هذا العلم لكن دون تقنين له ودون توثيق وربط ودون جعل ذلك علمًا ينتسب إلى أمة الإسلام، وما يبدع فيه الغرب اليوم هو استخدام الكتابة والنظر إلى التاريخ والحضارات والبناء عليها، فهم يبدؤون من النقطة التي انتهى عندها الآخرون بالإضافة إلى دراسات علمية لتوثيق تجارب الأمم وممارسة التجربة والخطأ من خلال مختبرات علمية ومشاهدات مدروسة وأبحاث تشترك فيها بيئة العمل مع الجامعة بما يسمى case study.
إن تاريخ الحضارة بدأ في الشرق الأدنى، وكانت حاضنته في حوض البحر الأبيض المتوسط، وكانت بابل ومصر هما درّتا بداية الحضارة كما يقول أكثر المؤرخين.
تميّزت الأمة العربية في القرنين الأخيرين بأنها أمة لا تقرأ، فخَطَا الغرب خطوات في علم الإدارة الذي ترعرع في دول الاشتراكية والرأسمالية والليبرالية والعلمانية وكانت معظم نظرياته الحديثة إن لم تكن كلها من نتاج الغرب، والذين كتبوا عن الإدارة الإسلامية – إن وجدوا – كان كل ما فعلوه ترجمة عن الإدارة الحديثة مع إضفاء حديث أو آية قرآنية أو ذكر مما قام به النبي صلى الله عليه وسلم توافق مع المبدأ الإداري الحديث.
إن هذه الأمة التي نزل القرآن فيها، وكان أول ما نزل “اقرأ”، كان خلفاؤها يديرون العالم بمساحاته الشاسعة من الحجاز، أو الشام أو بغداد محققين قول الله “اقرأ وربك الأكرم”، فبمقدار ما قرأ العرب في تلك الفترة منحهم الله من فيض كرمه فدانت لهم مشارق الأرض ومغاربها, هذه الأمة أصبحت اليوم عالة على الأمم في علم كانت في يوم من الأيام هي مادته!
علم الإدارة ينضوي تحته كل العلوم في التنمية البشرية والتحفيز والقيادة وجميعا كما قلنا علم تراكمي تأتّى من معاناة الشعوب والحضارات.
إن الإدارة العلمية اليوم بحثت في سلوك الإنسان وعملت مع علم النفس جنبًا إلى جنب؛ لتجعل هذا السلوك يتحرك في الجوانب الإيجابية لزيادة الإنتاج وتحقيق الأهداف، وخرجت إلينا نظريات عديدة مثل نظريات (X and Y) ونظرية (Z) ثم نظريات هرم مازلو ومنتسبيرج، ولا أريد أن أفصّل في هذه النظريات لأن غايتي هي النظرية الإسلامية وليست الغربية.
إن الدين الإسلامي الذي كانت مادته كما هي مادة الأديان الأخرى هي التوحيد، وكلما جاء نبي قال لقومه: (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره)، إن هذه الكلمة على قصرها إذا ما اعتنقها فرد أو جماعة كفيلة لتغيير السلوك 180 درجة, لذلك رفضها أهل قريش لأن فيها تغييرًا شاملًا للحياة، فما أثر التوحيد على علم الإدارة؟
عندما كتب الغربيون في هذا العلم كان جلّ هدفهم هو رفع الطاقة الإنتاجية، واستغلال الموارد المتاحة، من هنا أصبح لدينا علم إدارة التشغيل، وإدارة الوقت، وإدارة التحفيز، وإدارة الأزمات, وإدارة الجودة، وغيرها.
ولمّا كان الإنسان هو محور الحدث، تدرج التعامل معه من كونه آلة إلى كونه روحًا وقلبًا ودراسة اهتماماته ونوازعه وشخصيته.
إن علم التوحيد إذا ما اعتنقه الشخص فإنه سيبدأ يؤمن بما وراء العالم المادي ليعطيه بُعدًا غاب عن رؤية علماء الإدارة المعاصرين الذين درسوا المادة والإنسان في معامل هوثرن وغيرها، هذا الإنسان إذا ارتبط بخالق في السماء وآمن بالقضاء والقدر وآمن برسالة محمدية، فإن كل علم الإدارة سيحتاج إلى إعادة صياغة، غفل عن هذه الحقائق هؤلاء العلماء، ولا لوم عليهم ولكن اللوم على علماء مسلمين لم يبروا أقلامهم للكتابة في إدارة إسلامية حديثة، جعلت المسلم يعتنق فكرًا غربيًا قد يشوبه ما يشوبه من آلام ومصائب.
من قضية التوحيد، خذ مثلاً قضية الإيمان بالرزق والأجل، هاتان القضيتان اللتان إذا اعتنقهما المسلم، وآمن أن الرزق كالنفس وأن لن تموت نفس حتى تستوفي أجلها ورزقها كانتا كفيلتين بأن تُغيرا مجرى سلوك الإنسان عن شخص يعتقد أن الرزق لا يتأتى إلا بالقوة وأن الحياة هي غاية المنتهى.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “أن الولد مجبنة مبخلة” في إشارة إلى أن سلوك الإنسان في العمل أو في اتخاذ القرار سيتأثر أو سيكون أحد الاعتبارات لدى الإنسان في مؤسسته، هذا الإنسان إذا لم يكن إيمانه بأن الرزق هو من عند الله الذي أمره بين الكاف والنون قد تقع عليه مؤثرات تجعله ينحني لقرارات تأتيه من أعلى خوفًا على وظيفته التي يقوت بها عياله، وإذا انحنى الفرد والجماعة فُتحت ثغرة الفساد التي منها قد ينخر المجتمع ككل.
خذ مثلاً آخر، وقد وصل الفكر الغربي بجهود جبارة بعد عصف ذهني بشري كبير إلى فكرة أن التحفيز الداخلي هو أفضل أنواع التحفيز التي تجعل سلوك الإنسان إيجابيًا الأمر الذي سيؤدي حتمًا إلى نتائج إيجابية، وأي تحفيز أكبر من كونك مرتبطًا بعالم الغيب، عالم الخالق الذي يثيبك على إحسانك بجنة عرضها السموات والأرض، ما الذي دفع الصحابة إلى تضحيات عَزّ نظيرها في التاريخ لولا هذا التحفيز الداخلي والتحفيز الذي يتجاوز العالم المادي إلى العالم الغيبي؟
كمسلمين مطالبون اليوم بإعادة صياغة علم الإدارة من خلال نظرة إلى تاريخنا وسيرة رسولنا ومعتقداتنا الدينية التي لو ربطت بالعلم الشرعي والعلم الكوني لأخرجت لنا ميدانًا واسعًا بدلاً من أن تجتر ما أعد لنا الغرب من علوم قد لا تناسب عصرنا ومبادئنا.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست