كانت الشعوب ولا تزال هي الرهان الأول لأصحاب المشاريع السياسية الكبرى، وحركات التغيير الرائدة، وهي الرصيد الحقيقي والحليف الأقوى للجماعات والأحزاب وحتى الأنظمة السياسية، لأن هذه المكونات في الحقيقة هي تعبير عن هموم وتطلعات وإرادة الشعوب، ومن دونها تظل في حالة من العزلة عن الواقع الداخلي الذي قد تُؤتى من قِبله، وذلك لأن الشعوب وخصوصًا فئة الشباب ربما قطعت من النضج والوعي ما يفوق وعي قيادتها أحيانًا، فيما يتعلق بإدراك مآلات العمل السياسي.
وهذا لا يعني أن الأحزاب الإسلامية فقدت البوصلة وفرطت في حواضنها الشعبية وارتهنت لقوى داخلية وخارجية، وإنما يعني أن حالة من التقديم والتأخير بين الرهانات اضطُرت إليها بفعل إكراهات العملية السياسية وموازين القوى الداخلية والخارجية، وهي حالة اضطرارية المشكلة في استمرارها وليس في ممارستها، وتتطلب مزيدًا من المراجعة والتقييم خشية أن تطول، وحتى لا يتم التعامل معها خيارًا إستراتيجيًّا أو التعويل عليها بالدرجة الأولى.
المكونات الإسلامية أداء سياسي محاصر
دعوني هنا أستعرض معكم بعض النماذج الحية، وعلى رأسها حركة حماس النموذج الذي يحظى بقابلية واسعة لدى الرأي العام العربي، وقد كانت حماس، ولا تزال تراهن على وعي الشعب الفلسطيني والشعوب العربية والإسلامية وأحرار العالم، واضطرها الواقع للاستفادة من الدعم الإيراني، وهي عملية اضطرارية تكتيكية تقدر بقدرها في حينها، وتتطلب من صاحبها الخروج من حالة الاضطرار، والبحث عن خيارات إستراتيجية أوسع، لأن إيران فقدت سمعتها الأخلاقية والسياسية عند أكثر الشعوب العربية، وحالة الاضطرار تقدرها الشعوب وتدركها جيدًا، وأي زيادة عن ذلك لن تكون محمودة العواقب، ومن المؤكد أن حماس تُدرك قطعًا أن حاضنتها الأساسية عند الشعوب التي اكتوت بنيران الحرب في اليمن وسوريا والعراق ولبنان تضعف يومًا بعد آخر.
في المغرب وجد حزب العدالة والتنمية نفسه في الحكم قبل أي عملية تتعلق بإصلاح النظام السياسي للدولة، وأداؤه السياسي في هذه الحالة لن يكون بحجم الطموح الشعبي، صحيح أنه ليس بمقدوره تحقيق كل ما يريده الشعب بفعل المساحة الضيقة التي يتحرك فيها، إلا أن باستطاعته ألا يتورط كثيرًا في تبني خيارات النظام، وفي هذه الحالة أصبح محاصرًا بين تطلعات الشعب المطالبة بالإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وبين هذه المساحة الضيقة، وربما لم يستطع الحزب إلى الآن تقديم نموذج يرضي الجماهير التي أوصلته إلى الحكم، وإذا أضفنا ما يتعلق بالتطبيع مع الكيان الإسرائيلي بعيدًا عن الإرادة الشعبية، فإن هذه العملية وسابقتها ستكون ارتداداتها مكلفةً بلا شك، ولعل الانتخابات النيابية المغربية القادمة لن تكون كسابقتها.
في تونس وبتعبير الأستاذ عبد الحميد الجلاصي فإن مفارقة حركة النهضة هي أنها كانت الحزب المناضل الأكبر الذي تقدم بعد الثورة لملء فراغ القيادة، ليتحول إلى حزب حكم بعد أن كان حركة معارضة، وفي رحلتها من مواجهة الحكم إلى المساهمة في قيادة البلاد من مواقع مختلفة كان عليها أن تجري مجموعة مراجعات عميقة في الثقافة الحركية، ونوعية العلاقة مع الدولة والمجتمع، دون أن تخسر صورتها النضالية، وكان عليها كذلك أن تجري موجة تطبيع دون أن تخسر ميزتها التغييرية التي تقتضيها رسالتها التاريخية وطبيعة مرحلة ما بعد الثورة، خشية أن يتكون في مخيلة الشعب أن النهضة لم تعد حركة تغيير، وأن مؤسسات الدولة قد احتوتها وكيفتها، وأنها غلَّبت عند الممارسة دواعي الاندراج على واجب التغيير، وأمام هذه الحالة تفقد الحركة يومًا بعد آخر مزيدًا من قيادتها وشعبيتها، وذلك ما يدركه كل مراقب لأداء الحركة ونتائج الانتخابات التونسية.
ومثل ذلك تمامًا بالنسبة لحزب الإصلاح اليمني الذي ربما خياراته الشعبية مقارنة بما كان عليه قبل الثورة لم تعد كما كانت، لأسباب تتعلق بعدم قدرته على الفاعلية والتحرك في مساحة واسعة من اليمن، فقد فقدت الدولة سيطرتها عليها، وضعف المعالجات للقضايا التي وجد نفسه فيها فجأة في ظل غياب الدولة، والمتعلقة بحقوق الشهداء والجرحى وإدارة المناطق المحررة، إضافة إلى الرتابة في الأداء وضبابية الرؤية المرتبطة بالسلطة الشرعية وأدائها الضعيف من جهة وخيارات الحزب المحدودة من جهة أخرى، كل ذلك يؤثر ليس فقط في الحاضنة الشعبية العامة، وإنما في أعضاء الحزب وبعض قياداته.
مثل هذه النماذج تتكرر بصورة أو بأخرى في عدد من البلدان العربية، نتيجة التماهي مع الخيارات التكتيكية ومحاولة تحويل الاستثناء إلى أصل، وهو إجراء تكلفته باهظة آجلًا وعاجلًا، ومع هذا يُحسب لهذه الأحزاب أنها أسهمت بقدر لا بأس به في بث الوعي ونشر ثقافة العمل السياسي، والنضال ضد الفساد والاستبداد، والمشاركة في التغيير السياسي والانتقال الديمقراطي، وهذا الإنجاز الذي أسهمت فيه خلال السنوات الماضية من المفترض أن يجعلها أكثر التحامًا بحاضنتها الحقيقية، وحرصًا عليها عند أي موازنة بين الرهانات.
الشعوب خيار إستراتيجي ناجح
الرافعة الحقيقية لأي تغيير فعلي أو انتقال ديمقراطي هي الشعوب، وخاصةً فئة الشباب، وهذه الفئة تعيش نسبةٌ كبيرة منها حالةَ عزوفٍ سياسي، سواءً على مستوى المشاركة في الشأن العام أم في العمليات الحزبية والدورات الانتخابية أم في المناشط السياسية العامة، ولم تستطع الأحزاب السياسية عمومًا استيعاب هذه الشريحة بالقدر الكافي، وكان من المؤمَّل أن تمثل الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية أملًا لهذه الشريحة بقدر تطلعاتها ووعيها، لكن يبدو أن الرهانات الشعبية بدأت تفقد أولويتها نتيجة تعدد التحديات الداخلية والخارجية، والتردد في تقييم أولويات المرحلة.
يمثل الشباب أكثرية الفئات العمرية في أي مجتمع، وهم فاعل مهم يساهم استقطابُهم في المحافظة على الحالة السياسية، والحيلولة دون اختراقها أو حرف مسارها، من قِبل العديد من دوائر التأثير الداخلية والخارجية، سواءً بالمال أم الإعلام وحتى بالوسائل الخشنة، وهذا الأمر يدعو الأحزاب كافة إلى مراجعة أدائها، والاقتراب أكثر من شعوبها، وفتح المجال أمامهم لقيادة الأحزاب والمشاركة في بناء الدولة، وتفويت الفرصة على الجماعات غير القانونية، التي قد تجد مدخلًا في المستقبل لاستيعاب ما لا يمكن استيعابه، وتوظيفه خارج إطار العملية السياسية.
هذه العملية تحتاج إلى موازنة حقيقية لا يضعف معها الرهان الشعبي ولا يفقد أولويته، نتيجة ضغط إكراهات العملية السياسية، بدون ذلك ستخسر هذه الأحزاب الورقة الرابحة، وسيتضح الأمر أكثر عند خسارة الأوراق الأخرى، وعزل الأحزاب الإسلامية عن حاضنتها الحقيقية، أو فقدان الشعوب أملها في أحسن الخيارات إن لم يكن أقلها سوءًا، وبدون التعويل على الشعوب وبالأخص شريحة الشباب فإن الأداء السياسي وعلى رأسه عمليات الانتقال الديمقراطي، سيظل سائرًا بخطوات مترنحة يُخشى عليها من السقوط.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست