يأتي هذا الكتاب ضمن جهود الدكتور خليل العناني المتواصلة لدراسة وتفكيك الجوانب المتعددة لظاهرة الحركات الإسلامية، إذ صدر للكاتب فيما قبل العديد من الدراسات تميزت بالموضوعية والعمق، نعرض في هذه المقالة دراسته لهذه الظاهرة في فترة ما بعد الثورة المصرية.
تأتي افتتاحية الكتاب محاولةً لتفسير العلاقة بين الدين والثورة؛ إذ يؤسس العناني نظريًا لتفسيره بعرض سريع لأهم الأطروحات التي حاولت تفسير تلك العلاقة، وتأتي الأطروحة الكلاسيكية التي استندت إليها الحداثة الغربية على رأس هذه الأطروحات، وتقوم على افتراض وجود صراع بين الدين والعقلانية للسيطرة على المجتمع، يُحسم في النهاية لصالح العقل، بدأت هذه الأطروحة في التراجع مع صعود اليمين الديني المحافظ في الولايات المتحدة وسيطرة الأصوليين على الحكم في إيران وإسرائيل والهند، على أي حال؛ يؤكد الكاتب على تنوع مواقف الدين أو المؤسسة الدينية من ظاهرة الثورة تبعًا لتوقيت ومكان الثورة فالكنيسة الكاثوليكية في القرن الثامن عشر في فرنسا على سبيل المثال كانت جزءًا أصيلًا من النظام الذي ثار عليه الفرنسيون، على النقيض كانت المؤسسة الدينية في إسبانيا والبرتغال وبولندا والبرازيل لاعبًا فعالًا في الثورات التي قامت في تلك الدول وفي عملية الانتقال الديموقراطي، هذا فضلًا عن تجربة الثورة الإيرانية التي كان الدين ورجاله هم المحرك الأساسي فيها، وكذا فإن الثورات العربية لم تكن ثورات ضد الدين كما أنها لم تكن ثورات دينية، هذا وقد اختلفت تجارب الإسلاميين من بلد إلى بلد فنرى صعودًا وسقوطًا سريعًا للإخوان في مصر نتيجة للرعونة السياسية وانعدام الخبرة، ونرى أيضًا تكيفًا واضحًا ومرونة من حركة النهضة التونسية.
ينتقل العناني للحديث عن منهجيات دراسة ظاهرة الحركات الإسلامية مشيرًا إلى الاتجاهين المسيطرين في هذا الحقل، المنهج الأول وهو المنهج الجوهراني الثقافي يرى تلك الحركات كردة فعل رجعية على الحداثة الغربية متجاهلًا الخصوصية التاريخية للمجتمعات الإسلامية، المنهج الثاني هو المنهج السياقي ويرى الإسلام السياسي بعين المنهج الاقتصادي السياسي، فالحركات الإسلامية لا تعدو أن تكون سوى نتيجة مباشرة لمشاكل اجتماعية واقتصادية كالفقر والبطالة والفساد، وقد نما اتجاه ثالث سعى لمعالجة ثغرات المنهجين المذكورين، ويرى هذا المنهج الحركات الإسلامية ظاهرةً معقدةً لا يمكن فهمها بدون تفكيك أوجهها المؤسسية والفكرية.
في الفصل الثاني من الكتاب ينتقل العناني للحديث عن حضور الدين في مصر أثناء وبعد الثورة، أثناء الثورة لم يكن هذا الحضور مزعجًا نظرًا لرمزية هذا الحضور وانسجامه مع المناخ التوافقي الذي ساد تلك الفترة، والذي ساعد عليه توحد الثوار خلف إسقاط النظام، على أن هذا الحضور تحول إلى مسار للجدل والاستقطاب فيما بعد حول بعض القضايا كمسألة الهوية، وقد تراوحت أشكال هذا الحضور ما بين الحضور التعبوي؛ فكانت المساجد أماكن للحشد والتعبئة أثناء الثورة المصرية، أو الحضور الرمزي الذي تجلى في مواقف المؤسسات الدينية الرسمية ممثلة في موقف شيخ الأزهر، الذي حاول إمساك العصا من النصف، وموقف الكنيسة القبطية الداعم لمبارك، أو الحضور الحركي ممثلًا في حضور الحركات الإسلامية في الثورة وعلى رأسها جماعة الإخوان، وقد تراوحت مواقف تلك الجماعات والحركات في البداية ما بين متردد كجماعة الإخوان التي شارك بعض أعضاؤها في الثورة من أول أيامها، ولكن أتت المشاركة الرسمية مع 28 يناير، ومواقف رافضة أتت أغلبها من التيار السلفي (مع بعض الاستثناءات).
أما عن أسباب احتدام الجدل حول مسألة الهوية في فترة ما بعد الثورة، فيرى العناني أن حالة القمع التي سادت فترة مبارك كان لها الدور الأكبر في انفجار الجدل حول الدين والهوية بعد الثورة بهذا الشكل، فمبارك اعتبر الدين حكرًا على الدولة ومؤسساتها، ومع ذلك منح الفرصة لبعض الجماعات الإسلامية للمشاركة السياسية في محاولة لإحداث توازن بين تلك الحركات وتحجيمها وتفادي رد فعلها العنيف إن هو قام باستئصالها بالكامل، فهو تارة يفتح المجال أمام الإخوان ليتفرغ لضرب الراديكاليين وتارة بفتح المجال للسلفيين لتحجيم دور الإخوان –خاصة بعد برلمانيات 2005- ،وكذلك كان وجود الإسلاميين مصدرًا لكسب شرعية دولية عبر الظهور كبديل وحيد للمتطرفين، ومع إغلاق المجال أمام نقاشات جادة لقضايا حساسة كمسألة دور الدين في المجال العام وحقوق المرأة والأقباط، كان سيل المناقشات التي تلت الثورة منطقيًا في أجواء من الحرية والانفتاح لم يشهدها المصريون من قبل، وكذلك كانت رغبة التيارات السياسية في اجتذاب المزيد من الأتباع والمؤيدين عبر تسييس تلك المسألة سببًا آخر في اشتعال هذا الخلاف، الذي كان استفتاء 19 مارس أول وأهم تجلياته.
يرى العناني أن الاستقطاب العلماني الإسلامي بعد الثورة في مصر، كان امتدادًا لإرث طويل من هذا الصراع الذي كان إنشاء جماعة الإخوان المسلمين أهم تجلياته، وكان انغلاق المجال العام في عهد مبارك سببًا لخلافات غير منطقية وقعت بين الإسلاميين والعلمانيين، كخلاف استفتاء 19 مارس، الذي تم تحويله من مجرد استفتاء على «إجراءات» إلى استفتاء على «الهوية والدين»، وهو ما تسبب في تعطيل المسار الديمقراطي وتعميق الصراع والانقسام المجتمعي.
يورد العناني ملاحظاته على هذا الاستقطاب، وتتمثل في رعونة الطرفين وفشل التيار الليبرالي في احتواء الإسلاميين، إضافة إلى محاولة الجميع إنهاء معضلات سيستغرق حلها سنوات وربما عقود، كقضايا الهوية ودور الدين في شهور، وهو ما تسبب في وصولنا إلى نفق مظلم في النهاية، كذلك يلاحظ العناني وجود خلفية طبقية لهذا الصراع، إذ ينتمي الليبراليون والعلمانيون للطبقة الوسطى وينتمي الإسلاميون إلى الطبقة الدنيا والشريحة الدنيا من الطبقى الوسطى.
ينتقل العناني للحديث عن تأثير الربيع العربي على الحركات الإسلامية وعملية انتقالهم من الهامش إلى المركز، وفي هذا السياق يشير إلى ثلاثة تحولات مرت بها الأيدولوجية الإسلامية؛ التحول الأول كان مع تأسيس جماعة الإخوان المسلمين على يد حسن البنا وانتقال أفكار الإصلاح الإسلامي النخبوية إلى شرائح جماهيرية أوسع، أتى التحول الثاني مع الثورة الإيرانية ووصول إسلاميين إلى الحكم منذ سقوط الخلافة، أما عن التحول الثالث فقد أتى مع ثورات الربيع العربي، أما عن السرديات القديمة فقد أصبحت بالية، حيث لم تعد مسألة توافق الإسلام والحداثة والديموقراطية محل جدل.
يرصد العناني أربعة تغييرات هامة أصابت الساحة الإسلامية وهي :1. نهاية البنية الإسلامية التقليدية، حيث ظهرت تيارات وأحزاب سياسية إسلامية جديدة تختلف عن القوى القديمة فكريًا وبنيويًا. 2.ظهور الإسلاميين غير الرسميين أو اللامنتمين وهم سياسيون إسلاميون تحرروا من أعباء التراتبية التنظيمية الموجودة لدى التنظيمات القديمة واعتمدوا على وسائل مختلفة في الوصول للجماهير، مثال حازم أبو إسماعيل والعوا وأبو الفتوح، 3.تغير الخطاب الإسلامي فقد فضل بعض الإسلاميين الابتعاد عن المواضيع ذات الجوانب الدينية واتجهوا بدلًا من ذلك لمواضيع سياسية أي بدأوا فعليًا في العلمنة ولو ببطء. 4.ظهور الصراعات الداخلية بين التيارات الإسلامية المختلفة وداخل التيارات نفسها، وقد تجلت تلك التغييرات في برامج أحزاب تلك التيارات.
تباينت مواقف الإسلاميين حول بعض القضايا مثل حقوق الأقليات والمرأة والالتزام بالقيم الديموقراطية، وأتت المواقف الأكثر نضجًا من حركة النهضة وحزب العدالة والتنمية المغربي، فمثلًا أكد الغنوشي على احترام حزبه للحريات الفردية وحرصه على منح فرص متكافئة للمرأة، 42 امرأة من أصل 49 امرأة في المجلس النيابي التونسي بعد الثورة كن عضوات في النهضة، والمساواة بين الجنسين، إضافة إلى هجوم النهضة على السلفيين لرغبتهم في فرض الحجاب على النساء.
أما عن الإخوان فكانت مواقفهم محافظة وغير لائقة أحيانًا، فهم مثلًا يؤكدون على سعيهم لتحقيق المساواة بين الجنسين في الحياة العامة والعمل، ولكن يرفضون حق النساء والمسيحيين في الترشح للرئاسة.
أما عن حزب النور؛ فقد رأوا أن دور المرأة يكمن في بيتها ولا دور لها في المجال العام، ولما كان قانون الانتخابات ملزم لترشيح سيدات على القوائم الانتخابية اضطر النور لوضع سيدة في ذيل كل قائمة ووضعت زهور مكان صورهن، كما عارضوا إعطاء الحقوق السياسية الكاملة لغير المسلمين.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست