إذا كنت قادمًا إلى القاهرة بالطائرة في النهار، فالشوق يدفعك إلى النظر إليها من النافذة، لعلك ترى في خيالك شوارعها ومبانيها التي عاهدتها منذ الطفولة، فلا تكاد ترى سوى غابة من المساكن المتراصة باهتة اللون والمعالم، غير بعيد منها بقع زرقاء مبعثرة لحمامات سباحة في فنادق أو تجمعات عمرانية مغلقة «كومباوند» محاطة بمساحات خضراء محدودة.
وبعد الانتهاء من إجراءات الوصول في المطار لتركب السيارة، فأينما تولي وجهك تجد إعلانات ضخمة لفيلات أو شقق فاخرة في «كومباوند»، غالبا ما تحمل أسماء أجنبية أوعربية مصحوبة بكلمة إنجليزية، ووعودًا براقة برفاهية الحياة هناك حيث الأمن و الأمان.
أسوار خرسانية عالية ومداخل مشددة الرقابة، وتصاريح للزائرين تفصل سكان التجمعات المغلقة عن ملايين المصريين البسطاء، ويتجلى التميز بين شرائح المجتمع المصري بإعلانات لا تخلو من العنصرية الطبقية سواء في وسائل الإعلام أو على مواقع التوصل الاجتماعي.
ففي صورة لإعلان لأحد التجمعات المغلقة (الكومباوند) نشرته إحدي شركات التسويق العقاري الشهيرة على صفحتها في «الفيسبوك»، أظهرت الفيلات الفارهة بحمات سباحة، وسط مساحات خضراء، مفصولة بجدار خرساني عازل تعلوه الأسلاك الشائكة عن مساكن الفقراء الأشبة بعشش العشوائيات، ووجوههم مصوبة نحو «الكومباوند»، مكسوة بنظرات الحزن والبؤس، وكانت الصورة مصحوبة بتعليق «يارب لك الحمد على نعمة السكن الأمن الراقي الآدمي».
وسرعان ما أثار هذا الاعلان موجة استياء على صفحات التواصل الاجتماعي، وتم تشبيه السور الفاصل بالجدار العازل بين الاحتلال الاسرائيلي والشعب الفلسطيني، الأمر الذي دفع الشركة إلى حذف الإعلان من صفحتها على «الفيسبوك»، وتقديم اعتذار للقراء.
وفي نفس السياق عُرض إعلان آخر في التلفزيون لكومباوند يتفاخر بعناية اختيار ساكنيه بعد إجراء مقابلات خاصة معهم. ويظهر الإعلان رفض الشركة لعدد من المتقدمين مثل سيدة ذات مستوى اجتماعي منخفض، أو رجل «محدث ثراء»، وكذلك مواطن صعيدي يبحث عن الأمن داخل «الكومباوند».
السياق الذي تناولته تلك الإعلانات لم يقتصر فقط على مفهوم الخصوصية والأمن بالداخل، بل تعدى ذلك إلى ترسيخ التميز الطبقي واستحقاق الحياة الكريمة «الآدمية»، فقط لمن تتوافر فيه شروطهم، وإظهار الازدراء ممن لا تنطبق عليهم شروط التميز الطبقي والاجتماعي.
إلا أن الإعلانات التجارية لتلك التجمعات المغلقة تُظهر مستوى آخر من الرفاهية يصعب تصوره في مصر، حيث تحوي ملاعب للجولف ومتنزهات للأطفال ومراكز تجارية كبيرة وعروض للدولفين. وفكرة التجمعات السكنية المغلقة «الكومباوند» ليست جديدة، فهي موجودة في دول أخرى مثل الولايات المتحدة والسعودية، وكذلك في الهند ودول أمريكا اللاتينية، وحسب تعريف ويكيبيديا فهي عبارة عن تجمع حضاري معزول عن الخارج بجدران وبمداخل ومخارج تخضع لحراسة تتحكم في حركة الدخول والخروج منه. وبحسب دراسة أجراها الدكتور «عبد الخالق فاروق» الخبير في الشئون الاقتصادية، نشرها في كتابه «عشش وقصور»، أن عدد المنتجعات السكانية المغلقة يزيد عن 100 منتجع مقامة على مساحة 55 مليون متر مربع من أراضي مصر، البالغة 950 مليار متر مربع. ووتختلف أسعار الوحدات السكنية حسب المساحة ومكان «الكومباوند»، حيث تتراوح الأسعار بين 4000 جنية مصري للمتر المربع إلى أكثر من 20 ألف جنيه.
وتتمتع هذه التجمعات المغلقة باكتمال المرافق فيها، حيث المدارس الدولية والنوادي الرياضية الاجتماعية والمراكز التجارية، وبشوارع واسعة ونظيفة، وصيانة منتظمة، وقمامة يتم التخلص منها بشكل دوري، والبوابات عليها حراسة طوال الوقت، هذا إلى جانب دوريات الأمن المنتظمة وكاميرات المراقبة في الشوارع.
الإشكالية الحقيقية للتجمعات المغلقة التي تحوي صفوة المجتمع، هو انفصالها الكبير عن واقع الشعب المصري بمشاكله ومعاناة أفراده اليومية في توفير لقمة العيش، لذا فليس مستغربًا في ظل تباين الظروف الاجتماعية والاقتصادية أن يؤكد بعض قاطني «الكومباوند» على خصوصيتهم في مواجهة أي دخيل إلى مدينتهم، وتحاول الإعلانات التجارية استغلال النزعة العنصرية للانسلاخ عن المجتمع، بالتأكيد على تميز الصفوة بعيدًا عن عامة الشعب.
فعلى سبيل المثال، نشرت على إحدى الصفحات الرسمية لإخبار سكان أحد المنتجعات السكنية الشهيرة على موقع «الفيسبوك» رسالة سيدة من ساكنيها تنتقد فيها بغضب تقصير الأمن لعدم منع خادمتها من الدخول في غير ساعات العمل الرسمية، وبالتالي تمكينها من حضور الاحتفال المقام في أحد كافيهات المدينة بليلة رأس السنة، وجلوسها بكامل زينتها، ومع صديقها على الطاولة المجاورة لها، ثم التباهي بنشر صورها على «الفيسبوك».
وأثارت هذه الرسالة ردود فعل غاضبة من رواد مواقع التواصل الاجتماعي الذين اتهموا السيدة بالعنصرية، وإن كانت هذه الشكوى قد تعللت بالحفاظ على الأمن في «الكومباوند»، إلا أن المضمون اللغوي للرسالة قد حمل الكثير من الاستعلاء على الفئة العاملة لدى سكان المدينة.
خارج هذه الأسوار المغلقة يكمن واقع الحياة اليومي للمدينة حيث يعيش 27.8% من السكان تحت حد الفقر حسب تقرير الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء لسنة 2015. فبينما يبلغ معدل الفقر العالمي طبقًا «للبنك الدولي» 1.9 دولارًا يوميا للفرد، أي بنحو 36 جنيهًا يوميا و1083 شهريا للفرد الواحد، فإن معدل إنفاق الفرد المصري أقل من ذلك بكثير حيث يشير نفس التقرير أن معدل إنفاق أدنى فئة في المجتمع هو أقل من 334 جنيها شهريا للفرد أي حوالي 11 جنية يوميًا. كما تشكل المناطق العشوائية 38,6% من مساحة الكتلة العمرانية في مصر طبقًا لتقرير الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء لسنة 2016. ولكن معاناة المصريين أخذت في الزيادة في الشهور الأخيرة بعد تحرير سعر الصرف وما استتبع ذلك من زيادة هائلة في أسعار السلع الأساسية والمحروقات. فمنذ أيام رُفعت أسعار أكثر من 3000 دواء في مصر مما يهدد بحرمان الملايين من حق العلاج. ومع ارتفاع البطالة إلى أكثر من 12.5% في مجتمع يشكل الشباب أكثر من 60% من السكان حسب تقرير البنك الدولي لسنة 2016، تحولت حياة الملايين إلى مأساة يومية لتوفير لقمة العيش، لذا لم يكن مستغربًا في ظل التردي الملحوظ في الأوضاع الاقتصادية أن تتزايد الجرائم وحالات الانتحار لدى الطبقات الفقيرة. ففي الأسبوع الأول من شهر يناير2017 شهدت مصر ثلاث حالات انتحار لأشخاص عجزوا عن تدبير المصروفات اليومية.
وسرعان ما بدأ الشارع المصري يلمس تزايد معدلات الجريمة ليس فقط في المناطق الفقيرة بل طال كذلك حتى الكمبوندات المغلقة. ولم يكن مقتل «نيفين لطفي» الرئيس التنفيذي لبنك أبو ظبي الإسلامي داخل فيلتها في «كومباوند» بأكتوبر في شهر نوفمبر 2016 بدافع السرقة سوى جرس إنذار لفكرة الأمن الزائف وسط مجتمع يعاني من تباين واضح بين شرائحه. فوفق التقرير السنوي 2016 لمؤشر الجريمة العالمي على موسوعة «نامبيو» جاء ترتيب مصر في المركز 28 عالميًا من إجمالي 117 دولة بحيث تصبح أفضلها رقم 117 وأسوأها رقم 1، وبذلك تعد مصر من الدول العربية ذات المعدلات العالية في الجريمة تسبقها ليبيا والجزائر.
حتي وإن تحققت الرفاهية والأمن الداخلي للصفوة المتحصنة خلف الجدران الخرسانية العازلة لبعض الوقت، إلا أن استمرار ذلك بات محل تساؤل، خصوصًا مع تردي الأوضاع المعيشية وانضمام نسبة غير قليلة من الطبقة المتوسطة إلى الطبقة الفقيرة وكذلك من الطبقة الفقيرة إلى الطبقة المعدمة.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست
علامات
الجدار العازل