وسط ظلام دامس عم الكون قرابة الستة قرون، وقد انقطع الوحي عن الأرض حتى ضلت البشرية طريقها، وفسقت عن أمر ربها، وانحلت عن عزائم دينها، وسادتها شرعة الغاب، فغاب العدل، وانتفش الظلم، وأكل القوي منها الضعيف، واستعبد الناس بعضهم بعضًا، يشاء الله لنوره أن يعاود الأرض، رحمة بعباده، فيرسل للناس رسولًا منهم، يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويدعوهم إلى صراط الله المستقيم، ويجاهد في الله حق جهاده، حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله، وما كان لقوى الشر أن تخلي بينه وبين دعوته، ففي ذلك هدم بنيانهم، وتقويض عروشهم، وضياع ملكهم، فوقفوا له ولدعوته بالمرصاد، فعمدوا إلى شخصه تكذيبًا وتشويهًا، وإلى دعوته تشكيكًا وتسفيهًا، وإلى أتباعه تعذيبًا وتنكيلًا،حتى اضطروه، صلى الله عليه وسلم، إلى أن يهجر أتباعه إلى موطن آخر ينالون فيه بعض حريتهم، وينجون فيه من كيد عدوهم، فكانت هجرتا الحبشة.
وعضت قريش على النبي ودعوته الأنامل من الغيظ، فلاحقوا من هاجر من أتباعه، واشتدوا على من بقي منهم في مكة، وبدأت أيديهم تطال النبي، صلى الله عليه وسلم، نفسه، وخاصة بعد موت عمه وزوجه، فقرر أن يخرج بدعوته إلى مكان آخر عله يجد فيه من يعينه على تبليغ دعوته وأداء رسالته، فقصد الطائف، ولكنه لم يجد من أهلها إلا كل قسوة وأذى، حتى إنهم أغروا به سفهاءهم فلاحقوه بالحجارة حتى أدموا قدميه الشريفتين، فاتجه بقلبه إلى ربه مستغفرًا وشاكيًا إليه إعراض الناس عما فيه حياتهم، وصلاح دنياهم وآخرتهم، وتمتم بهذه الكلمات التي اهتز لها عرش الرحمن: «اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس يا رب العالمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو تحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم»، ورجع مرة أخرى إلى مكة ودخلها في جوار المطعم بن عدي أحد سادتها.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست