انتهت الجولة الأخيرة من الحرب بين فصائل المقاومة الفلسطينية والاحتلال «الإسرائيلي» بخسائر سياسية عسكرية، مادية، ومعنوية قد تكون الأولى من نوعها منذ عشرات السنوات، لكنَّ المفاجأة كانت بخسارة باكورة عملٍ دبلوماسي رقمي شَغَلَ الاحتلال ومؤسساته السياسية والأمنية لعقدٍ كاملٍ من الجهد والتركيز.

بدأ الاحتلال الإسرائيلي بالتركيز على ملف الدبلوماسية الرقمية منذ بداية الثورة الرقمية عام 2010، وبدأ نشاطه الواضح بالظهور مع بداية الثورات العربية، ساعيًا لاختراق قنوات الاتصال الجماهيري المباشر مع شعوب المنطقة، بهدف تلميع صورة الكيان وخلق نموذج «إسرائيل» الصديقة، من خلال اللعب على أوتار التناقضات والخلافات التي نتجت من ثورات الربيع العربي، والتغييرات السياسية في المنطقة، سُخِّرَ لهذا العمل إمكانيات هائلة، حتى تحولت منذ بداية عام 2020، لمنظومة ضخمة تعمل وفق خطط وأجندات وتستهدف شرائح عديدة.

تطبيق «تيك توك» فرصة لا تعوض استغلَّها الاحتلال.

شكَّل التطبيق الصيني خَرقًا في المنظومة الرقمية العالمية التي تهيمن عليها شركات أمريكية، محتلًّا الصدارة للجيل الرقمي الجديد، سرعانَ ما سعت مؤسسات الاحتلال من خلال شبكة علاقاتها العامة سهَّلت لها قنواتَ تواصلٍ مع إدارة التطبيق لتقديم الخدمات المتبادلة، مما أدى لاكتساح التطبيق عبر عددٍ ضخم من الحسابات الرسمية وغير الرسمية وسرعان ما توثِّق عددًا من حسابات الناطقين باسم الاحتلال ومؤسساته، وحتى توثيقِ حساب رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو الذي ستشاهده على التطبيق كما لم ترَه من قبل.

عند متابعة نشاط الدبلوماسية الرقمية الإسرائيلية على تطبيق «تيك توك» خاصةً، سوف تدرك الإمكانيات التي يمتلكها القائمون على العمل الاتصالي في قنوات الدبلوماسية الرقمية، حيث امتلك هؤلاء إمكانيات عالية في مخاطبة الجمهور العربي، من خلال الموسيقى العربية، و التفاعل مع «الترندات العربية»، والتحدث باللغة العربية بطلاقة، حيث كان من الواضح أن غالبية العاملين في القسم العربي للدبلوماسية الرقمية الإسرائيلية ينحدرون من أصول عربية، بل صدَّر قسم الدبلوماسية الرقمية عشرات المشاهير على التطبيق يسوقون لأنفسهم أنهم عرب أو مغتربين من أصول عربية، كما أن غالبية القائمين على عملية الاتصال الرقمي أصحاب خلفياتٍ أمنية واستخباراتية، ويتحلَّون بمهارات الرد على التعليقات بطرقٍ مقنعة، وسَلِسة تضمن بقاء الصورة الذهنية التي يسعى الاحتلال لترسيخها، كما شهد التطبيق لأول مرة ظهورًا علنيًّا لجنود الاحتلال ومجنداته، لكنَّ المفارقة أنَّ مجمل الرسائل الناعمة تتوجه إلى جيل المراهقين واليافعين، بشكلٍ لم نألفه مسبقًا.

ثورة رقمية ضربت جهودًا عمرها سنوات، خلال أسبوعين فقط!

ما حصل أثناء وقبيل العدوان على غزة من هجومٍ رقمي على الاحتلال ووحشيته وكشفه، وتضامن مع قضية الشيخ جراح، ومع غزة، كان العامل الرئيسي في إشعاله هو ذات التطبيق الذي كان يعده الاحتلال «التطور النوعي» لمسار قسم الدبلوماسية الرقمية لديه، والذي يتباهى به أمام المستويات السياسية والأمنية، فطبيعة هذا الكم الهائل من التعاطف والتضامن الإعلامي «بشكله الرقمي» الذي كان لأول مرة في تاريخ الصراع بمثابة زلزالٍ دمر كُلَّ إنجازات الاحتلال المزعومة، وبرهنت أن المعركة مع الاحتلال تفوق تخميناته.

آلاف المشاهير من الولايات المتحدة، بريطانيا، أوروبا، تركيا، سوريا، وعدد من الدول العربية والعديد من الدول من شرق آسيا وغربها، أصبحت فلسطين «ترند» لأكثرَ من 3 مليار مستخدم على التطبيق، بمعدل أكثر من 3 مليار تفاعل على وسم #أنقذوا_حي_الشيخ_جراح لوحده، حتى على النسخة الصينية من التطبيق، ولأول مرة أصبحت فلسطين ترند في الصين، حيث شملتها «العدوى الرقمية».

ما لبث أن تحولت الحملات المناهضة للكيان، لحملاتٍ شعبية منظمة على مختلف منصات التواصل الاجتماعي، كان لهذا أثرٌ بالغ وضربة قاتلة لمساعي قسم الدبلوماسية الرقمية لدى الكيان، مما دفع الاحتلال لممارسة جميع أشكال الضغط المتاحة، على إدارة هذه المواقع للحد من الهجمة الحادة التي يتعرض لها الكيان، وكان لاستجابة هذه المواقع لطلبات الاحتلال ضررٌ وأثر بالغ في المنصات نفسها، التي شملها حملات انتقادات لاذعة، ودعوات لحذف التطبيقات، وتقييمها بشكلٍ سلبيٍ على (سوق بلاي، وآبل ستور)، ما زالت نتائجها تتكاثر حتى اللحظة.

الاحتلال يعيد حساباته

لا بد أن الاحتلال يحاول الآن إعادة حساباته، ومحاولة تلافي حالة عدم التوازن والضعف والاستجداء والإخفاق، التي ظهرت واضحة وجلية، من خلال ردة فعل وحداته الرقمية، على منصات التواصل.

هل نستثمر هذا الإنجاز؟

لا شك أن عدم وضع هذه المعطيات على الطاولة ومحاولة تثبيت الحالة الراسخة الآن، خسارة كبرى، ولا بد من العمل على استمرارية العمل الدبلوماسي الرقمي المناهض للاحتلال وذلك وفق عدد من الخطوات والإجراءات.

أولاً:

العلاقات مع منصات التواصل الاجتماعي وفتح بواباتٍ للتواصل المباشر من خلال مؤسسات العمل الإعلامي، وشبكات العلاقات العامة على المستوى الرسمي الفلسطيني، والمؤسسات المستقلة، والمبادرات الفردية، من خلال المكاتب الإقليمية وحتَّى المركزية، تَسمحُ بإيصال الصورة المناسبة والضغط في سبيل تحرير المحتوى الفلسطيني من القيود التي سعى الاحتلال لفرضها عبر علاقاته.

ثانيًا:

العمل على تشكيل أقسامٍ خاصة بالعمل الدبلوماسي الرقمي الفلسطيني، بإشراف مختصين ومتطلعين، يكون الهدف الرئيسي لها ترسيخ الحالة الرقمية التضامنية مع القضية الفلسطينية، وإشهار عددٍ من المنصات والأفراد الداعمين للرواية الفلسطينية، والمفندين لممارسات الاحتلال على مختلف الصعد، ينضوي تحت هذه الأقسام لجانٌ متخصصة بكُلِّ تطبيق (فيسبوك، توتير، تيك توك)، تعمل على الرصد اليومي والتشخيص الآني، وتساهم في دعم مسارات العمل والتقييم.

ثالثًا:

دعم الحراك الشبابي الرقمي «المقدسي» خاصةً، على تطبيق «تيك توك» والذي كان له الدور الأهم في تأجيج الصراع الرقمي مع الاحتلال، من خلال مقاطع الفيديو التي انتشرت مؤخرًا، والعمل على إمداد هذه الحالة بدعمٍ فلسطيني شامل على مستوى الداخل والخارج وتشكيلِ «لوبي رقمي فلسطيني» قادر على الضغط والاستنفار وكذلك التوجيه.

رابعًا:

احتضان المشاهير والمؤثرين الذين دعموا الحراك الأخير، والعمل على زيادة الروابط فيما بينهم، وبين المؤسسات الفلسطينية المعنية، وتقديم رسائل الشكر والتقدير، مع رسائل تعريفية عن تاريخ الصراع بكُل اللغات الممكنة.

في الختام

نعم إنها الخسارة الأولى للاحتلال على المستوى الإعلامي عمومًا والرقمي خصوصًا، باعتراف الاحتلال وكياناته ومؤسساته.

يقول عاموس هارئيل، المعلق العسكري في صحيفة «هآرتس»: «إن (إسرائيل) تبحث عن (صورة نصر) تنجح في (محو الإنجاز الذي حققته المقاومة على صعيد الوعي)، لكنها فشلت وتفشل في تحقيق هذا الهدف».

فماكينة الاحتلال لم تنجح هذه المرة في حشد الرأي العام المحلي والدولي بل حتى على المستوى الداخلي الصهيوني، الذي بات تحت مرمى القصف الرقمي، الذي أوغل به وبجبهته الداخلية.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد