قبل الدخول في صلب الموضوع من المهم تأكيد أن التاريخ يعد من أهم المراجع العلمية لتحديد عمر الدول ومدى بقائها، ولهذا السبب اهتم أعظم السياسيين والقادة العسكريين في العصور السابقة بدراسة التاريخ وتدريسه لاستشفاف العبر والتدقيق في أسباب صعود وسقوط الدول والإمبراطوريات العظمى. ويقول ابن خلدون في المقدمة: «فنّ التاريخ الذي تتداوله الأمم والأجيال هو في ظاهره لا يزيد عن إخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأولى، وفي باطنه نظر وتحقيق»، وبهذا يتجلى لنا أن تحليل الأحداث التاريخية وتطبيق النتائج المتوصل إليها في كل من السياسية الداخلية والخارجية للدولة يعتبر أمرًا حيويًا لمصير شعوبها.

ومن هذا المنطلق يخوّل لنا المنطق أن نقول بأن الاحتلال الصهيوني للشام لا يمكنه أن يكون استثناء للقواعد التاريخية المثبتة أركانها وقد تأسس الكيان الصهيوني المشوه الملقب بدولة إسرائيل سنة 1948 بعد إعلان وعد بلفور، وبفضل المساعدات المتتالية للدول الحاملة لراية البروتستانتية أي بريطانيا والولايات المتحدة اللتان مثلتا الظّهر والظهير ومستودع العدد والعدة والمدد والنصرة لفكرة إنشاء وطن لليهود يكون بمثابة دولة عازلة بين مشرق العرب ومغربهم، وقد قرأنا في كتب الملوك الأولين أن العالم الإسلامي في أغلب تاريخه لم يكن صاحب شوكة إلا عند انضمام المشرق لمصر وكلما سقطت مصر تحت أيدي أعداء العرب أو المسلمين، أو كلّما تمّ عزلها انفرط عقد الوحدة، وسادت الفوضى، وعُطّل ناموس الحكم ودارت الدوائر المبيرة، وفسد حال الرئيس والمرؤوس، وارتفع كل خامل وخسيس، فوحدة المشرق ومصر هي المبتدأ والغاية ومدار الوحدة وعنوان العزة.

يقول العلامة ابن خلدون في المقدمة إن الدول مثل البشر لها أعمار وفترة صحة وشدة، وفترة مرض وفتور، وفترة معافاة وميقات ولها فترة فتوّة وشباب، ففترة شيخوخة وهرم وفترة قوة وفترة ضعف وهوان، وقد ذكر في هذا الباب أن عمر الدول تحوم حول المائة عام تقريبا، فإن طبّقنا النظرية الخلدونية على إسرائيل يمكننا القول أن نجم بني صهيون على وشك الأفول ومن أول أسباب السقوط هو أن اليهود ألفوا الدعة وركنوا إلى الترف وقنعوا بالخمول فلم يوسّعوا ضيقًا، ولم يجيّشوا الجيوش، ولم يفتحوا الفتوح، فالضفة الشرقية باقية ومدينة غزة صامدة، أما الدولة العربية المتاخمة فهي مؤمّنة ولا تخشى غزوة ولا غارة فبقيت إسرائيل قليلة العدة والعتاد محدودة المسافة والمساحة قليلة الشعب والخيرات وبهذا اتبعوا الروم في بناء الأسوار، واستناموا إلى الحيطان، وسقطوا في مغالطة سور هادريان فبنوا القبة الحديدية واكتفوا بالدفاع والتحصّن وغفلوا عن تطبيق قاعدة الثورة الفرنسية إذ أن إسرائيل تقبع في بحر من الأعداء ولم تقم بالخروج عليهم وغزوهم، فبقيت دولة حبيسة صغيرة، فنادوا عدوهم إلى التطبيع، وتفرقت كلمة اليهود بين بعضهم في الداخل والخارج، وبهذا سقطوا في أخطاء الدولة الأموية، فقد سُئل أبو مسلم الخرساني عن سبب ذهاب دولة بني أمية فقال:

«أبعدوا الصديق و قربوا العدو، فلم يصر العدو صديقًا وصار الصديق عدوًّا”… إذ في ذلك العصر الغابر قرّب الخليفة هشام بن عبد الملك العباسيين، واشتدّ الخلاف بين الأمويين وقامت ثورات البربر في المغرب وزاد الخلاف في المشرق.

أما الجنرال البريطاني غلوب باشا يعرى أن تدفق الأجانب يضعف الدولة وينذر بانهيار الوحدة، فقد علمتنا تجارب الدول الغابرة أن استقبال الغريب الطارئ نذير على الدمار، وهو من مقدمات البوار إذ قام الرومان باستقبال القوط والعرب في أوطانهم فعاملوهم، كما يعامل السيد شاته فاستعملوهم في الأعمال الصعبة كالبناء والفلاحة، واستأثروا لأنفسهم الوجاهة والمكانة، فاساطاطّ خيلائهم وعزّ منالهم وأوقدوا روح القوة والشوكة في روح الطارئين فتربص القوط والعرب عليهم الدوائر، وانقلبوا عليهم ففازوا بالسلطان وحازوا هيبة جد عظيمة، وقد اتجه اليهود في تنفيذ هذه السياسة ففتحوا أبواب تل الربيع للعرب ولزنوج الحبشة، فتفاقمت الفرقة وتعاظم الشقاق والقسمة فلم يحسنوا النظر ولم يساعدهم القدر.

كما حسب شعب إسرائيل في غابة البشر أنهم أمنوا على أنفسهم فتمتعوا بالأمن والأمان، وعاشوا على نمط النعومة والإسراف والبطالة والإقبال على الدنيا والعكوف على شهواتهم فتلوثت أنفسهم فلم يعودوا قادرين على المواجهة والمبارزة، فترى قوة جنود اليهود خائرة وإرادتهم فاترة، وقد ألقى الله في قلوبهم الرعب، فهم يخشون الإقدام والمقابلة والمجابهة، أما سكان غزة فهم بفقرهم ورقة حالهم لا يخشون الموت وتجدهم على أهبة وعلى استعداد لمواجهة الكريهة والمخاطر، فحياتهم جهاد وموتهم شهادة، ومنهم أمة تأنف الموت حتف الأنوف وصدق من قال «فاز من فاز وساد من ساد إلا بركوب الخطر» وهذه الحياة لا يقدر عليها إلا أولو العزم فهي «تؤجج الصدر وتوقد العزيمة وتقرب البعيد وتوطّن النفس على الطلب وتزيح روادع التذمم والإشفاق والتردد فتطلق السبع وتشحذ مخالبه» فالضعف هو الشر الأكبر في السياسة والقوة والحزم والإرادة والمجازفة، وطلب الغاية البعيدة هي العدة الوحيدة التي تجبّ ما قبلها، وهنا تكمن المفارقة؛ فقد قيل في سير الممالك أن الملك يقام بعد ظهور «عصبة قوية تخرج بعافية البداوة وتقيم ملكًا ثم إذا أقبلت عليها الدنيا ظهر منها خلق جديد لم يختبر تقشف آبائه»، وهذه المقولة تبرز الفرق بين حياة اليهود اليوم وحياة آبائهم المؤسسين، وذلك أن البدو يعيشون المصاعب ويجابهون التحدي ويعيشون حياة البرية والتوحش فطبائعهم تشتد وعقولهم تتقد أما من اعتاد الرفاهة والفن والرقص واللهو يفقد حس الواجب، فهو مملوك للخوف والرعب وعبد للعجز والضعف، فتسقط مروءته وتضعف همته حتى تذهب عنه «مذاهب الحشمة في أحواله فتجد الكثير منهم يقذعون في أقوال الفحشاء في مجالسهم وبين كبرائهم وأهل محارمهم لا يصدّهم عنه وازع الحشمة» وهذا ما يدأب عليه اليهود وبنو الأصفر في زماننا، فمن الممكن أن يدوّخ أهل غزة اليهود ويثخنوا فيهم ويجندلوا عددا هائلا منهم حتى تعلو شوكتهم في البلاد وتصير إليهم أمور العباد.

ومن المرجح أن جهات الضغط في أمريكية في نزاع وصراع، فظهور الجناح اليساري على المعسكر الصهيوني لائح وتمكنهم من خطط ودواوين البلاد واضح، خاصة مع تولي بايدن للخلافة فأصبحوا يباشرون أعمال الدولة وحاجات الرعية واليسار يرى الأديان حاجز والصهيونية رادعًا لكل غاياتهم، فترى الجمعيات اليسارية من المثلية إلى ما بعد الكولونيالية مناهضين للصهيونية مادين العون للقضية. وهذا تدبير قبل تمكين.

من الواجب الذكر أن أسباب سقوط الكيان الصهيوني كثيرة وعديدة، وتحتاج إلى أكثر من مقال بسيط لتحري أخبارها، ولكننا نستخلص أنه منذ ظهور نجم إسرائيل وفّر اليهود الأرضية المناسبة لتدمير ذواتهم بإفساد طبائع شعبهم وبخلقهم للسبع المتوحش الذي سيفترسهم ويقض مضجعهم، فمصير اليهود إلى زوال ومصير بلادهم إلى انهيار فقد اقتربت ساعتها وتحققت طامتها وتمت كل شروط المهلكة، وما خبر نبوخذ نصر عنهم ببعيد.

ولكن السؤال الذي لا يغفل عنه عاقل: ماذا بعد إسرائيل؟

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد