شرع الاتحاد الأوروبي منذ تسعينات القرن الماضي في بذل جهود حفيفة لمناهضة العنف ضد المرأة بكل أشكاله من اعتداءات وتحرش لفظي، وجنسي، وعنف منزلي، وذلك بعد أن أثبت تقارير وبحوث استقصائية تزايد شدة العنف المسلط على المرأة في كامل أنحاء أوروبا والحاجة الملحة لسن قوانين من شأنها منع حدوث تجاوزات كهذه باعتبار ظاهرة العنف ضد المرأة من شأنها تفكيك الأسر وإحداث شرخ في المجتمع يهدد استقرار الدولة بأكملها.
خرج الاتحاد الأوروبي سنة 2002 بتوصيات المجلس الأوروبي التي وجهتها لجنة الوزراء إلى الدول الأعضاء والتي تتعلق بحماية المرأة ضد العنف، تبعتها الكثير من حملات مناهضة العنف ضد المرأة التي قادتها منظمات حقوقية وجمعيات حماية حقوق المرأة في كامل أوروبا، كما اتخذت الجمعية البرلمانية للمجلس الأوروبي موقفًا سياسيًا ضد كل أشكال العنف ضد المرأة، وتبنت العديد من القرارات والتوصيات طالبت فيها بوضع معايير ملزمة قانونيًا لمنع وتجريم جميع صور العنف القائم على أساس الجنس، سنة 2008 خلص المجلس الأوروبي أنه أصبح من الإلزامي وضع معايير شاملة لحماية المرأة من كل أشكال العنف ومنه تم تعيين لجنة من الخبراء والمختصين «cahvio» لصياغة مشروع لاتفاقية شاملة التي صيغت بشكلها النهائي في ديسمبر 2010، اعتمدت لجنة الوزراء بالمجلس الأوروبي هذه الاتفاقية في 7 أبريل (نيسان) لعام 2011، وفتحت باب التوقيع على الاتفاقية.
في 11 مايو (آيار) لنفس السنة في إسطنبول وسميت باتفاقية إسطنبول لمحاربة العنف ضد المرأة والعنف الأسري أين كانت تركيا أول الدول التي صادقت على الاتفاقية في أوائل سنة 2012 لتتبعها 27 دولة أخرى سنة 2013 ليصل مجمل الدول الأعضاء في الاتفاقية 45 دولة سنة 2017.
وما يميز هذه الاتفاقية انها تعتبر أول اتفاقية ملزمة قانونيًا لها نهج قانوني شامل في مكافحة العنف ضد المرأة أيًا كان شكله الجسدي، أو الجنسي، أو النفسي، أو الاقتصادي، بما في ذلك التهديد بهذه الأفعال أو الإكراه أو الحرمان التعسفي من الحرية، وذلك في الحياة العامة أو الخاصة حسب ما جاء في المادة 2 من الاتفاقية، إضافة إلى محاكمة المجرمين المتهمين في أعمال عنف ضد المرأة.
الاتفاقية التي كانت تركيا وعلى رأس حكومتها الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان أول المصادقين عليها تقرر الانسحاب منها بعد تسع سنوات من تطبيقها، حسب عبر الرئيس التركي منذ أغسطس (آب) الماضي أن بلاده تعتزم الخروج من اتفاقية إسطنبول معتبرًا أن الدخول في اتفاقية كهذه كان خطأً أساسًا وأن بنود اتفاقية إسطنبول لا تتلاءم والمجتمع التركي، التصريح الذي أثار موجة غضب عارمة في الداخل كما في الخارج التركي، حيث خرجت عدة مظاهرات لمنظمات وحركات نسوية في تركيا معبرة عن رفضها لقرار الخروج من الاتفاقية قائلًًا: إن تركيا حتى منذ مصادقتها لم تنفذ بنود الاتفاقية كما يجب وان معدلات العنف ضد المرأة في تركيا في تصاعد مخيف والخروج من الاتفاقية سيزيد من الأمر سوءًا، من جهته قال نائب رئيس حزب العدالة والتنمية نعمان قرتولمش: إن سبب الانسحاب يرجع إلى بندين في الاتفاقية، وهما قضية النوع الاجتماعي وقضية الميول الجنسية»، مشيرًا أن هذين البندين يعطيان مساحة من الحرية يتم التلاعب بها من قبل مجتمع الميم، وتجدر الإشارة أن المادة الرابعة من اتفاقية إسطنبول تحظر جميع أنواع التمييز حيث تنص على أنه يجب ضمان تنفيذ الأطراف المعنية لأحكام هذه الاتفاقية، وخاصة حماية حقوق الضحايا، وذلك بدون اي تمييز قائم على أساس النوع، أو الجنس، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الرأي السياسي أو غير السياسي، أو الأصل القومي، أو الاجتماعي، أو الثروة، أو النسب، أو الميول الجنسي، أو الهوية الجنسانية، أو العمر، أو الحالة الصحية، أو الإعاقة، أو الحالة المدنية، أو الوضع كمهاجر أو لاجئ، أو غيره.
وكان قرار الخروج من الاتفاقية الذي نشر السبت في الجريدة الرسمية للدولة التركية قرارًا لابد عنه، ومنذ زمن بعيد كون أن هذا النوع من الاتفاقيات التي يكون من إنشاء لجنة مختصين أوروبيين تلائم المجتمعات التي انتجت الاتفاقية ورسمت بنودها، فلا يمكن لوم الاتحاد الأوروبي على إدراجه بندًا يحمي فيه مجتمع الميم من كامل أنواع الاعتداءات وهو المجتمع الذي يعترف بفئة كهذه من الناس، ويعطيهم حقوقهم الكاملة في قوانينه الرسمية، وعلى الدولة التركية إعادة صياغة قانون يحمي المرأة من كل أشكال العنف ويعزز دورها في المجتمع من جهة ويكون من نتاج المجتمع التركي بحيث تكون كل بنود القانون تحترم وتتلاءم مع المنظومة الاجتماعية والدينية للدولة التركية.
ويجدر الإشارة أن تركيا ليست الدول الوحيدة التي انسحت وعارضت اتفاقية إسطنبول لحماية حقوق المرأة، بل سبقتها في ذلك عدة دول أوروبية، فالعام الماضي انسحب من الاتفاقية أيضًا سلوفاكيا والمجر بسبب ما أسمته تهديد الاتفاقية للمجتمع والأسرة، إضافة إلى وصف وزير العدل البولندي، زبيغنيو زيوبرو، اتفاقية إسطنبول بأنها «بدعة واختراع نسوي يهدف إلى تبرير إيديولوجيا المثلية الجنسية».
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست