-عاد محمد عبده من أوروبا بجملته الشهيرة التي توارثتها الأجيال «ذهبت للغرب فوجدت إسلامًا ولم أجد مُسلمين، ولما عدت للشرق وجدت مُسلمين ولكن لم أجد إسلامًا»، وجد من الأخلاقيات ومظاهر التحضّر والرُقي ما جعله يرى إسلامًا بلا مُسلمين، ربما قد رأى صِدقًا، أمانة، لا تدخل في شئون الآخرين.. تِلك الصفات التي هي «إنسانية» قبل أن تكن «إسلامية». إلا أنه -بمنظورٍ إسلامي- كان لا بد أن ينسبها للإسلام الذي ألزمنا بها في نصوص قرآنية وأحاديث، وأن يتحسّر حين يبحث عنها بين من هم مُسلمي الديانة فعلًا، ولا يجد إلا القليل! حدث ذلك منذ سنين بعيدة، ومات محمد عبده، ولم يعلم أن الأسوأ في انتظار الإسلام، والمسلمين.

– منذ سنواتٍ ليست بالكثيرة نُشِر فيديو لقرية نائية في صعيد مصر، لِمجموعة من كِبار السن، لم يستطع أي منهم التعرف على اسم «النبي»، ولم تُوفق إحداهن في سرد سورة الفاتِحة، وتعللنا حينها ببُعد المكان وأنه تكفيهم فِطرتهم السليمة، وأنه كيف سيصلهم الدين إذا لم تكُن تصلهم أقل الخدمات الإنسانية -عرض الفيديو أنها منطقة بيوت بلا أسقف لا تصلها المياه- إلّا أن التعلل لم ولن يغير من الأمر شيئًا.

– منذ أيامٍ قليلة، نُشِر فيديو آخر على موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» لِأطفال وشباب بين المرحلة الابتدائية والجامعة، سأل المذيع بعضهم عن عدد أجزاء القرآن، والبعض الآخر عن اسم السورة التي تبدأ بـ«قل هو الله أحد»، وعن أركان الإسلام وغير ذلك من الأسئلة التي قد يتمكن من إجابتها طفل نصراني حتّى، وكانت الإجابات صادمة إلى حدٍّ شديد البؤس، في هذا الفيديو، أطفال يحفظون عن ظهرِ قلبٍ كلمات أغانٍ في غاية التفاهة -والانحطاط أحيانًا- وفي المقابل لم يستطِع أي منهم معرفة عدد أجزاء القرآن، عدد أجزاء الكتاب الذي يتبعون -من المفترض- ما أُنزل فيه والرسول الذي أرسل به.

– لم يكن الأمر مفاجئًا بالنسبة لي، خاصة مع إدراكي الانحطاط الثقافي والاجتماعي والتفكك الأُسري، وكل ما يعيشه المجتمع العربي الإسلامي بشكل عام. لكن عليّ الاعتراف أنّي لم أتخيل الأمر بهذا السوء، الحقيقة البشعة كاملةً هي أن لدينا مسلمين لا يعرفون أي نبيٍ يتّبعون، لدينا أطفال لا تستطيع التمييز بين أطول وأقصر سورة في القرآن، لدينا آباء وأمهات يختزلون التربية في توفير النقود للطعام والكسوة وفي تلقين أخلاقيات بديهية، وفي الاعتماد على المدارس، المدارس التي هي بدورها جزء من الحقيقة، المدارس التي تُحيَا فيها الاحتفاليات على أنغام «المهرجانات»، المدارس المسؤولة عن تلقين مناهج تم تصنيفها الـ«139» ضمن «140» دولة، المدارس التي تحذِف مادة التربية الدينية من المجموع الكُلّي لسببٍ غير معلوم بالمرة، وفي المقابل لدينا مئات القنوات التليفزيونية التي إن لم تكن تبثُ التخلف العقلي في عقول الصغار فهي تبثُ الانحطاط في عقول المراهقين أو أنها تسلب عقول الكبار تمامًا، كيف قد ينجو من وسطِ كل هذا ذرية -مسلمين كانوا أو حتّى نصارى، الفكرة عامة تمامًا- ذات عقيدة سلمية وعقول ناضجة تعلم كيف تشق طريقًا لاستخراج حقيقة أمر جدلي ما؟ كيف قد تطرأ في أذهانهم «أمور جدلية» أصلًا إن لم تطرأ في أذهانهم فكرة قابلية النظر في «فهرس» كتابهم المقدس؟! كيف لنا أن نندهش بعد ذلك من التزايد الملحوظ في أعداد الملحدين واللادينيين؟

-قد يتبادر إلى أذهان البعض أن تصوّري للأمر به شيءٌ من السوداوية أو أنه لِم لا نتحدث عن الجوانب المشرقة المُشرّفة؟ فلدينا أطفال تحفظ القرآن عن ظهرِ قلب، وآخرون يدرسون العلوم الشرعية ويعرفون منها ما لا يعرفه آباؤهم، لدينا عدّة مُثقفين ومُفكرين رائعين، وأعلم كذلك أن الفيديو خضع لتعديلاتٍ كثيرة باعتراف القناة المُنتجة نفسها لإظهار الوضع، أرى ذلك كله. لكنّه لا يُسمن ولا يُغني، نحن نعلم إلى أين وصلنا بهذا الفيديو أو بدونه، حقيقة وجود طفل كل عشرة أطفال يدرس القرآن ليست بالشيء المُبشر المطمئن إذا كان هناك من يعتقد أن السورة التي تبدأ بـ«قل هو الله أحد» هي سورة «القدس»! لن ينفع بشيءٍ إن كان لدينا عشرة مُجددين مقابل المئات من عديمي المعرفة بأبسط أمور العقيدة، ولا حتّى عندهم الرغبة في المعرفة.

– الأمرُ مرعبٌ تمامًا، معدل الانحدار يتزايد، والأسباب أيضًا في تزايد، لا بد من وجود حلول منطقية وفعّالة، منطقية تمامًا كنسف المدارس، أو تفجير القمر الصناعي! أما عن الآباء والأُمهات، فكيف تستطيعون ذلك أصلًا؟ كيف تستطيعون «عدم» التفكير في هذه المسؤولية المُرعبة؟ كيف وأين ومتى اختزلتم دوركم نحو أطفالكم في طعام وصحة وأخلاقيات بديهية تم اختزالها هي الأُخرى في جُمل غالبًا ما تحتوي لفظ «الكِبار»، لا ترفع صوتك على الكبار، الزم أوامر الكبار، أنا أكبر منك وأعلم ما لا تعلم، فقط؟ ثم نبحث عن «أساس» فلا نجد إلا عقولًا خاوية.

منذ أن دخلت ساحة النقاش فيما يخص أُمور الزواج والإنجاب أجِدُني أذكر دائمًا أنه كيف أجرؤ على تنشئة عقلٍ ما بحيث أكون أنا المسؤول الأول؟ هل أستحق ذلك أصلًا؟ هل لدي ما يكفي من الوعي (الثقافي والديني والتربوي والنفسي و…!) لمهمةٍ كتلك؟ أُردد هذا وأنا أعلم أني لا أستحق، وأنه ليس لدي وعي من أي نوع إلّا بقدرٍ لا يستحق الذكر إذا ما قُورن بهذه المُهمة. كيف لكلِّ من أقبل على مثل هذه التجربة ألا يُفكّر في هذا وأكثر؟

– السيّد محمد عبده، رحمة الله وسلامه عليك، يؤسفني إبلاغك أنّ الأمر لم يعد يقتصر على أخلاقيّات أو تحضّر أو أيّ كان المُسمى، يؤسفني إبلاغك أنه قد قسّمنا المُصحف إلى ثلاثة أجزاء، وإلى خمسة، وفي أفضل الأحوال قد أدلى أحدهم أنه «مش هعرف أفتي في الحاجات دي».
لمشاهدة الفيديو

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد