في الأعراف والأفكار والمذاهب أن تختلف مع الأقلية لتكون مع الأكثرية هذا مفهوم، أو تُظهِر العداء والاختلاف مع الأبعدين لتقترب أكثر من الأقربين هذا مبرّر، لكن أن تختلف مع الجميع وتبارزهم بأفكارك من أجل شخصية ما فهذا لا يمكن تفسيره بسهولة.

من هنا تظهر أهمية شخصية عيسى عليه السلام في الإسلام، قبيل الإسلام كان هناك انتشار محدود للمسيحية في شبه الجزيرة العربية تتركز في أطراف شبه الجزيرة العربية واليمن وبعض القبائل، في حين أن قريش الوثنية لم تكن تؤمن بشخصية عيسى عليه السلام كشخصية روحانية بخلاف الحال مع ابراهيم عليه السلام، لكن الإسلام كعادته كان صريحًا في موقفه من عيسى ابن مريم حيث أعلن وبوضوح مكانته الرفيعة بين الرسل حيث إنه من أولي العزم من الرسل، وفي الوقت ذاته وبكل وضوح أعلن أن الأوثان ليس لها أي قيمة دينية ولم يقبل المساومة في عبادتها أو تقديسها ويظهر هذا في العديد من مواقف السيرة النبوية والآيات القرآنية كقوله تعالى على لسان رسوله: (قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون) ومن السور كسورة الكافرون:

(قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)).

إذن لقد حرص الإسلام على إظهار مكانة عيسى عليه السلام لدى قريش، وفي الوقت ذاته لم يجامل أو يحابي قريش في آلهتهم وأوثانهم رغم أن قريش هي القبيلة الحاضنة لبداية الإسلام، واستمالتها يسهّل الدعوة الإسلامية ويوفر للإسلام الوقت والجهد والمناخ المناسب للانتشار، لكن الإسلام آثر إبراز مكانة عيسى عليه السلام ورفض تعظيم الأصنام مما جعل كفار قريش يضجّون ويعرضون عن موقف الإسلام تجاه هذا النبي الكريم حيث ذكر القرآن موقفهم في سورة الزخرف حيث قال تعالى:

(وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ۚ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا ۚ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ (59)). 

لم تتوقف دعوة الإسلام في إظهار مكانة عيسى عليه السلام في المواجهة الفكرية مع قريش الوثنية، بل امتدت للتواجه مع صورة عيسى عليه السلام في اليهودية حيث إن اليهود «لم يعترفوا بعيسى عليه السلام كنبي بل اعتبروه نتيجة علاقة غير شرعية وعندما كبر ادّعى النبوة وعوقب على ذلك بالموت»، حيث ذكر الله تعالى اليهود وذمّهم في معتقدهم في سورة النساء حيث قال:

(فبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ۚ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ۚ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)).

مرة أخرى يجد الإسلام نفسه في صدام فكري لإبراز حقيقة عيسى عليه السلام، لكن هذه المرة مع أهل الكتاب من اليهود الذين كانوا يُعتبرون أهل العلم في شبه الجزيرة العربية، موقف الإسلام من عيسى عليه السلام واختلافه عن موقف اليهود جعل الإسلام يبدو وحيدًا في عقيدته الفريدة في هذا النبي العظيم ويضيف إلى الاختلافات العقدية والفكرية التي يتميز بها الإسلام عن اليهودية.

لم تنته قضية موقف الإسلام من عيسى ابن مريم هنا، بل تتجلى أيضًا عند مقارنة موقف الإسلام بموقف المسيحية حيث أكد الإسلام موقفه الثابت أن عيسى عليه السلام نبي كريم وأمه طاهرة عفيفة لكنه ليس إلها ولا ابنا للإله، حيث ذُكِرَ عيسى عليه السلام قرابة خمس وعشرين مرة في القرآن كما ذكر في العديد من الأحاديث النبوية الشريفة، منها قوله تعالى في سورة النساء:

(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً)

وقوله تعالى في سورة المائدة:

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75))

كما حارب الإسلام فكرة أن المسيح عليه السلام قد صُلِب في أكثر من موضع في القرآن، كقوله تعالى:

(وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ)

كل هذا وضع الإسلام وحيدًا في إظهار موقفه من هذا النبي العظيم، فلم يكن موقف الإسلام مماثلاً لموقف اليهود والنصارى وفي الوقت ذاته حرص الإسلام على إبراز صورة هذا النبي الكريم، فتحمّل الإسلام وكرّس جزءًا من دعوته لإبراز عقيدته الثابتة في عيسى ابن مريم الإنسان الرسول الكريم، فكان الإسلام -كعادته- وسطًا بين من أنكر منزلة عيسى عليه السلام ككفار قريش واليهود وبين من غالى فيه كالنصارى.

 

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد