لا شك أن حادثة «مافي مرمرة» 2010 قد عكست اتجاهات العلاقة التركية الإسرائيلية. فقد كانت تركيا هي أول دولة إسلامية تعترف بإسرائيل عام 1949. وبعد انضمام تركيا لحلف الناتو تم توقيع اتفاق عسكري أمني عام 1958 عُرف باسم «حزام المحيط» والذي جمع معهما إثيوبيا. وجاء الانقلاب العسكري في تركيا سنة 1980 ليعمق العلاقات الثنائية بين البلدين في أبعادها الشاملة، عسكريًا وأمنيًا واقتصاديًا، حتى وصلت لعصرها الذهبي في تسعينيات القرن الماضي إذ قامت رئيس الوزراء التركية تانسو تشيلر بزيارة إسرائيل عام 1994، تلتها زيارة الرئيس سليمان دميريل في 1996.
وقد شهد عام 1996 توقيع عشرات الاتفاقيات في المجالات العسكرية والأمنية والاقتصادية والسياسية، سمحت بتواجد مقاتلات عسكرية إسرائيلية على الأراضي التركية، وتعاون استخباري ضد دول عربية أهمها العراق وسوريا.
لم يمنع فوز حزب العدالة والتنمية عام 2002 من المحافظة على إستراتيجية العلاقة بين البلدين على أعلى مستوى، إذ في يناير 2005 قام وزير الخارجية التركي – في حينه – «عبد الله غول» بزيارة لإسرائيل تمهيدًا للزيارة الكبيرة التي قام بها رئيس الوزراء التركي – في حينه – «رجب طيب أردوغان» والتي التقى فيها برئيس الوزراء أرئيل شارون، إذ سوقت إسرائيل تلك الزيارة على أنها نموذج يحتذى من قبل جميع الحركات الإسلامية والمعارضة للوجود الصهيوني على أرض فلسطين.
لكن ذلك لم يدم طويلًا؛ فقد مثل الانسحاب الشهير لـ«أردوغان» بصفته رئيسًا لوزراء الجمهورية التركية من منتدى دافوس في سبتمبر 2009 من جلسة جمعته مع شمعون بيريس بصفته رئيسًا لدولة إسرائيل؛ انعطافًا حادًا، تبعه الأزمة الدبلوماسية بين البلدين على أثر إهانة السفير التركي في يناير 2010، ثم كانت القطيعة الكبرى بين البلدين بعد حادثة «مافي مرمرة» 31 مايو 2010، والتي لا تزال مستمرة رغم حجم التبادل الذي وصل إلى ذروته في 2015 فقد سجل الميزان التجاري بينهما 5.5 مليار دولار فيما كان حجم التبادل التجاري بينهما 450 مليون دولار في 1996، وارتفع إلى ملياري دولار في 2004. ويذكر أن الإحصاءات تشير بشكل لافت إلى أن حجم التبادل التجاري قد زاد بين البلدين في فترة القطيعة الدبلوماسية والعسكرية بينهما بنسبة 69.5%، غير أن ذلك كان يتم عبر القطاع الخاص وبشكل يضمن للحزب هيبته في الحكم أمام العالم.
ولفهم دوافع العدالة والتنمية للاهتمام بالعلاقة مع إسرائيل، رغم ما يبدو من قطيعة مستمرة منذ ست سنوات متواصلة، فلا بد من إدراك التالي:
- لا يمكن أن تحافظ تركيا على علاقة جيدة مع الغرب والولايات المتحدة الأمريكية مع استمرار أزمتها مع إسرائيل، واستحالة تحركها بشكل منفرد في أي قضية إقليمية في ظل توتر في العلاقة مع الغرب.
- توتر العلاقة مع روسيا وتطورات الأزمة السورية يدفعان باتجاه تخفيف حدة العداء مع الأطراف المؤثرة في المنطقة، وإسرائيل أهمها بالتأكيد، مع ربط تحسن العلاقة بوضع الحزب الحاكم في تركيا.
- لا يمكن لتركيا أن تتجاوز حدود السقف العربي في التعامل مع إسرائيل، باعتبار أن «حل الدولتين» هو الذي تقدمه «المبادرة العربية للسلام».
ويبدو أن العلاقة الاقتصادية هي أحد أهم مذيبات الجمود في العلاقة بين تركيا وإسرائيل؛ إذ مثل اكتشاف الغاز الطبيعي على سواحل المتوسط الشرقية والتي تسيطر عليها إسرائيل، نقطة تحول حقيقية باعتبار أن ذلك سيخفف عن كاهل تركيا استيراد 55% من احتياجاتها للغاز من روسيا، التي لا تزال العلاقة بينهما متوترة منذ إسقاط المقاتلة الروسية سوخوي 24 في نوفمبر 2015. وترى إسرائيل أن تركيا هي أفضل مشترٍ للغاز الذي لا يمكن أن تفي حاجات الدول المجاورة بطموح إسرائيل التجاري لبيع كميات الغاز الكبيرة إليها، بل هي تطمح لبيعه إلى مناطق المياه الباردة عبر تركيا. علمًا أن تركيا قد رغبت إسرائيل في المساهمة في تكاليف مشروع نقل الغاز إليها.
تشير الترجيحات إلى أن العلاقة بين البلدين ستفضي إلى استئناف العلاقات الإستراتيجية، ولكن بتدرج يراعي الخارطة الإقليمية والتزام إسرائيل بتطبيق شروط تركيا الثلاثة (الاعتذار، التعويض، رفع الحصار) المرتبطة بحادثة «مافي مرمرة» وبما لا يمس بمكانة دولة الاحتلال الصهيوني.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست