الشعب يريد

«الشعب يريد»، لم يكن هذا شعارًا فقط اتخذه قيس سعيّد وأنصاره طريقًا إلى قرطاج، بل هو عنوان إرادة شعب حرّ رفض الظلم والفساد والخضوع لقوى الرّدة ممثلة في الثورة المضادة بأبعادها الداخلية والخارجية.

إنه الشعب الذي قرر أن يكون أستاذ القانون الدستوري البسيط رئيسًا للبلاد وترك جانبًا زعماء الأحزاب القوية وأباطرة المال والإعلام. فعلها الشعب التونسي أمام ذهول عرابي الانقلابات العسكرية في الشرق الأوسط ومخربي الثورات المأجورين ودهشة أكثر من حاكم عربي برتبة عميل. ما الذي يحدث في تونس؟ يسأل أحدهم، فتجيبه أهازيج النصر من غزة والقدس وبيروت والجزائر والقيروان ومراكش ومدن عربية أخرى كثيرة في نخوة لا حدود لها. يحدث في تونس أن يُنتَخب رئيس جديد فتسعد بذلك كل شعوب المنطقة التوّاقة للخلاص من سجنها الكبير ومباشرة بعد اعلان فوز الرجل المشهود له بالنزاهة وتعلقه الشديد بقيم العدل والمساواة بين جميع مواطنيه عمّت التونسيين «حالة وعي»، وهي مبادرة غير مسبوقة دفعت مئات الآلاف منهم للخروج في حملات تنظيف للمدن والقرى؛ مما أضفى عليها مشهدًا مغايرًا خلال بضعة أيام.

يوم 23 أكتوبر (تشرين الثاني) 2019 المرتبط أساسًا بأداء السيد قيس سعيّد لليمين الدستورية ليس بالتاريخ العادي في تونس الحديثة، ولا حتى العالم العربي، إنه اليوم الذي نكست فيه أعلام الثورة المضادة ورفعت فيه إرادة الشعب عاليًا لمعانقة قيم العدل والحرية. اليوم الذي اعتلى فيه رئيس عربي سدة الحكم بإرادة شعبه عن طريق صندوق الاقتراع، وليس بانقلاب نفذه العسكر أو لعبة مخابراتية أدارتها قوى أجنبية.

كم شعبًا في الشرق الأوسط توّاقًا ليوم كهذا؟ شعوب مسلوبة الإرادة أرهقتها سطوة الحكام وجورهم، سُرقت مقدراتها عن سبق إصرار وترصد، وغيبت أحلامها في رحلة بحث يومية مفتعلة عن الرمق. أيعيد هذا اليوم الفارق في تونس لتلك الشعوب شيئًا من أحلامها؟

لا شك أن غرف عمليات كثيرة في دول عربية أساسًا وحتى غربية عملت منذ بداية الربيع العربي على إجهاض كل أحلام شعوب المنطقة في الانعتاق والحرية وبناء أنظمة حكم مؤسساتية، وإن كان نجاحها بيّنا في سوريا، واليمن، وليبيا، ومصر، والسودان، فإن فشلها لا تخفيه العين في تونس التي فلت شعبها بإرادته الصّلبة من كل المؤامرات التي حيكت ضدّه. ولا يعني وصول قيس سعيد إلى قصر قرطاج وما رافقه من زخم شعبي عربي منقطع النظير نهاية عمل تلك الغرف، بل قد تغير أسلوبها في التعامل مع الشأن التونسي ليس إلا. فأنظمة عربية كثيرة لا يروقها ما يحدث في قرطاج من انتصار واضح لقوى الثورة في الانتخابات الأخيرة وهي لن تدخر جهدا في عرقلة عمل الرئيس الجديد كدأبها مع كلّ مدافع عن الحرية والعدالة وخاصة موقفه المشرف من القضية الفلسطينية ووقوفه المتوقع في وجه صفقة القرن المشبوهة.

صفقة القرن سيئة الذكر التي ما كان لها أن توضع لولا تواطؤ عدد من حكام المنطقة مع الكيان الغاصب والإدارة الأمريكية يمثلها الرئيس ترمب في ابتزاز واضح للقادة المنبوذين من شعوبهم ومساومتهم على بقائهم في السلطة تحت حمايته وهي الصفقة التي ستضيع معها آخر حقوق الشعب الفلسطيني.

ويدرك الحكام كما الشعوب أن الرئيس التونسي سعيّد المستمد شرعيته من شعبه لن يلج أبواب العمالة كما فعلوا ولن يرضخ بسهولة لمغريات السلطة وإن لم يكن قادرًا على إيقاف ما يحاك ضد القدس من مؤامرات، فمواقفه المبدئية وصلابته يمكن أن تلهم ملايين العرب على التحرك، وهذا تمامًا ما يخشاه أكثر من دكتاتور في المنطقة العربية.

كما تخشى مواقفه القوى الغربية المدافعة عن الوجود الإسرائيلي في المنطقة والمزهوة بتقاربها مع عدة أنظمة عربية على غرار المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات، فضلًا عن مصر السيسي. فخروج تونس المنتظر من دائرة الخضوع الأعمى لتلك القوى وحلفائها الإقليميين وتغيير بوصلة سياستها الخارجية من النأي بالنفس إلى الدفاع عن قضايا الأمة وعلى رأسها القضية الفلسطينية سيضع القادة المهرولين باتجاه التطبيع في إحراج كبير أمام شعوبهم.

ولا شكّ أنّ الملايين الذين انتخبوا قيس سعيد، وأغلبهم من المتعلمين، مدركين لحجم التحديات التي تنتظر رئيسهم على المستويين الداخلي والخارجي. وما نجاحة المتأمل إلاّ بثباته على مواقفه أولًا، واستمرار حالة الوعي لديهم وعيًا عميقًا بضرورة وحدة الصّف من أجل استمرار النموذج الديمقراطي التونسي وهّاجا، والبدء في بناء اقتصاد البلد على أسس متينة وعادلة، وقبل كلّ شيء العمل الجاد على الخروج من سطوة صندوق النقد الدولي الجاثم على الصدور منذ سنوات.

ورغم أن الدستور لا يعطي صلاحيات كبيرة للرئيس، فإن العمل في تناغم مع الحكومة المرتقبة والاعتماد على إرادة الشعب في الرقي بواقعه يمكن أن يجعل تونس ترى النور في نهاية النفق الطويل.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد