في الحادي عشر من أكتوبر (تشرين الأول) 1959، كتب إسماعيل الحبروك في جريدة الأهرام: (وكان آخر ما قال لي قبل أن يرحل عن عالمنا أمس الأول: إن حياتي كلها كانت محنة مريرة، حاولت جهدي أن أجعل منها ابتسامة حلوة، لقد كتبت ألف قصة و30 كتابًا ولم يقدرني أحد. الحسد والحقد والغيرة أكلت كل المحاولات التي بذلت لأجلس على المقعد الصحيح وأقف في المكان المناسب، إني لم أنل كلمة تقدير واحدة، لم أنل جائزة، لم أقبض مليمًا واحدًا مكافأة لي طول حياتي). ويحدثنا الأمير شكيب أرسلان قائلًا: عندما أتاح لي القدر دخول مصر بعد غيبة سبع وعشرين سنة، ألفيت في ما ألفيت من كنوزها خبيئة مكنونة يقال لها (كامل كيلاني)، ليس من ذوي المناصب الرسمية العالية، ولكنه من ذوي المناصب النفيسة العالية، أقامه أدبه بالمقام الذي قعد عنه منصبه، وما زالت رتبة العلم أعلى الرتب؛ فمن عرفه حق المعرفة رأى فيه بحرًا ذخارًا يغرق منافسيه بكل لجة، وعثر علي خزانة أدب مكتظة صاحبها حجة اللغة لا ابن حجة. وكان كامل كيلاني كثيرًا ما يتمثل ببيتين من نظمه:

أبدعت فاحتمل المكاره صابرًا إن الشقاء الحق أجر المبدع
وتهنأ الفزع المؤرق إنه زاد الأبي ولذة المترفع

كامل كيلاني (20 أكتوبر 1897- 9 أكتوبر 1959)

النشأة والبيئة المحيطة

في بيت يطرب أهله للعلم بحي القلعة في القاهرة، ولعائلة يتصل نسبها بالشيخ عبد القادر الجيلاني، رُزق المهندس كيلاني إبراهيم كيلاني سنة 1897 بابنه الرابع عشر، وأطلق عليه أبواه اسم (كامل)، وشاء الله أن يعيش كامل بعد وفاة إخوته الذكور في بواكير حياتهم. تفتحت عينا الصبي على مكتبة والده العامرة؛ فتكونت ملامح شخصيته في بيئة شرقية مثقفة. والقاهرة يومها قسمين؛ قاهرة أوروبية وقاهرة شرقية إسلامية، ولكل منهما ملامح متمايزة وروح مغايرة. سمع الأساطير اليونانية من مربيته وابنتيها، كما سمع الحوذي (سائق عربة تجرها الخيول) محمد الشيخ الخرافات والأساطير الشرقية، ومن خاله الضرير سعد إسماعيل.

التحق بالكتّاب وحفظ القرآن الكريم، ومن بعده أدخله والده مدرسة أم عباس سنة 1907، وظهر اهتمام كامل بالأدب العربي؛ فحفظ ألفية ابن مالك وبعض الأبيات الشعرية، وفي العطلة الصيفية لم ينقطع عن الثقافة، وكان يتردد على الأزهر الشريف؛ لحضور دروس الشيوخ سيد بن علي المرصفي، ومحمد السحرتي، ومصطفى الحلبي الشامي الحلواني. تأثر كثيرًا بقصة سيف ابن ذي يزن، وعبد الشاعر (شاعر الربابة) في سوق العصر بميدان القلعة.

ضاق كامل كيلاني بالأسلوب الصعب للكتب العربية، وعاب عليها غياب الصورة المعبرة عن السياق، بينما الكتب الإنجليزية سهلة الصياغة وتحوي صورًا تقرِّب المعنى، وبث إلى صديقه سيد إبراهيم ما يجد؛ فقال له يومًا: ألِّف خيرًا منها إن كنت قادرًا، ووجدت تلك الجملة هوى في نفس كامل؛ فسأل نفسه: وما يمنعني من الكتابة يومًا ما! فرض على نفسه عزلة خصصها للمطالعة والتثقيف الذاتي، ودرس اللغتين الإنجليزية والفرنسية وأتقنهما، وزادت من عزلته الظروف التي مرت بها مصر إبان الحرب العالمية الأولى، وفي سنة 1917 عمل مدرسًا للترجمة بالمدرسة التحضيرية. في نفس الوقت، التحق كامل بالجامعة الأهلية، وتعرف على أقرانه من الجامعيين الأوائل ومنهم زكي مبارك، عبد الوهاب عزام، فريد رفاعي، عبد الحميد العبادي، عبد الله القليقلي، أحمد البيلي وغيرهم.

واتفق كامل ورفاقه على دراسة الأدب العربي والإنجليزي والفرنسي والإيطالي، وفي العام التالي اختاروه رئيسًا لنادي التمثيل المسرحي. بعد ثورة 1919 وقف شكري كيرشاه وإلى جواره كامل كيلاني يخطب الناس في حي القلعة: أيها الناس! وحدوا أغراضكم؛ فيجيبه الناس: لا إله إلا الله، ثم يقول لهم: أيها الناس! وحدوا جهودكم؛ فيجيبونه: لا إله إلا الله، وعندها أيقن كامل كيلاني أن الإثارة الخطابية لن تجدي نفعًا في شعبٍ غيبه الاستعمار، واستولى عليه الجهل فهو لا يدرك ما يُخاطب به.  وفي عام 1920 قررت سلطات الاحتلال البريطاني نقل كامل كيلاني إلى محافظة البحيرة؛ للعمل بمدرسة الأقباط الثانوية في دمنهور، لكنه ترك التدريس سنة 1922 وعاد للقاهرة ليعمل بوزارة الأوقاف بقية حياته، أصبح لاحقًا سكرتيرًا لمجلس الأوقاف الأعلى، إلى أن أحيل للمعاش في يناير (كانون الثاني) 1954.

أول قصة كتبها للأطفال سنة 1927 وهي السندباد البحري، وحرص على الكتابة بلغة سليمة من اللحن والتعقيد والعامية، وأضاف الصور التي قرَّبت كتاباته للأطفال. تولى منصب رئيس تحرير جريدة الرجاء سنة 1922، وفي العام نفسه التحق برابطة الأدب الحديث، واختاره الأعضاء سكرتيرًا للرابطة سنة 1929، ومن أعضائها أحمد شوقي، أحمد زكي، خليل مطران، داود بركات، أحمد سامح الخالدي، الأب إنستاس الكرملي، محمد كرد علي، وغيرهم، لكن الرابطة لم تستمر طويلًا وانفصمت عراها سنة 1932.

دفاعه عن الفصحى

بدأ المستشرقون يبثون سمومهم في العالم العربي، ودأب المستشرق الإنجليزي ويلكوكس يعزف على لحن صعوبة الفصحى، وضرورة استعمال العامية في المكتوب والملفوظ، وتبعته أذناب كثيرة من المصريين والسوريين أمثال أحمد لطفي السيد، سلامة موسى، لويس عوض، أنيس فريحة، الخوري مارون عوض، عبد العزيز فهمي وغيرهم. مع ظهور هذا التيار، لجأ كامل كيلاني للقصة العربية؛ فهذبها واعتنى بها وأخرجها في ثوب قشيب، وكتبها بلغة عربية سليمة لا تعقيد فيها ولا سطحية أو ابتذال؛ فأقبل أطفال العالم العربي على قصصه وأحبوا لغتها، وفي ذلك يقول كيلاني: “أنا أحارب اللغة العامية التي يدعون إليها، أحاربها بكل ما أستطيع، ولكن أسلوبي في محاربتها هو حرب البناء الذي يصنع التاريخ”. لم ينجرف للمهاترات الكلامية حول الفرعونية والهللينية، وقصر جهوده على تقريب الفصحى للأجيال الجديدة، ووظف وقته وكل حواسه لخدمة العربية، وساعدت قصصه الكثيرين على التشبث بالفصحى والنهل من معينها العذب.

أيقن أن الحرب على الفصحى استهدفت الأجيال القادمة؛ فكتب لهم القصص العربية بلغة سهلة، وبأشكال عذبة وطريقة تحببهم في العربية، ثم ترجمها إلى الفرنسية والإنجليزية، وذاعت قصصه في الشرق والغرب، وبلغت الهند وباكستان، وترجمت للعبرية والصينية، وكان المدرس في الصين يقول لطلابه: (هناك بلد تدعى مصر، وكامل كيلاني مؤلف القصة التي بين أيديكم منها). وفي الجامعة تحدى كامل بعض أساتذته، كان من دأب هذا الأستاذ أن يعرض عليهم كل أسبوع نموذجًا من شعر أو نثر أحد أعلام الأدب الأوروبي، ثم يرفع عقيرته ويسألهم: هل في الأدب العربي مثل هذا؟ هل عرض أديب عربي لهذه الفكرة؟ فمضى كيلاني يبحث في بطون الكتب حتى واجه الرجل بكل ما كان يعرضه بمقال له؛ فكتب 1800 صورة مقابلة بين الأدب العربي والأدب الغربي، بل وجمع من الأفكار التي تناولها الأدباء العرب ما لم يبحثها أدباء الغرب.

المثابرة في طلب العلم

في بعض الأوقات كان يقرأ ست عشرة ساعة متصلة، ولقبه أحمد شوقي بعقرب الثواني؛ لأنه سريع العمل وافر الإنتاج، فيه يقول أنيس منصور: لا يعرف كامل كيلاني إلا أن يعمل ليلًا ونهارًا بحماس الشبان وإيمان الشيوخ بأنه يؤدي عملًا نافعًا، ولا يعنيه ما يقول الناس، وهو زاهد في الشهرة وفي المال، ولكنه لم يزهد أبدًا في العمل والإخلاص لأبنائه الأطفال في كل مكان، يعمل في صمت دون أن يكترث قليلًا أو كثيرًا للنقد، وقد حدث أن هاجمته إحدى المجلات شهورًا متوالية؛ فلم يشأ أن يقرأ النقد الذي كتبته. ويرشدنا كيلاني لجدول عمله: أخذت نفسي بريجيم قاسٍ في الحياة؛ فحصرت جهودي كلها في عملي وأغفلت كل شيء، فلم أرد على ناقد ولا كاتب، بل أكاد لا أجيب على رسائل الإخوان، ولا أذكر أنني كتبت في حياتي كلها أكثر من 35 رسالة. أما المازني فيقول: وقد قلت إن كتب الأستاذ الكيلاني ليست بحوثًا أو دراسات، وإنما هي تيسير وتبسيط لأبي العلاء، وقد عرف الأستاذ الكيلاني بأنه من خير من يؤلفون للأطفال. ومما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي في مدح كامل كيلاني:

يا كاملَ الفضلِ قد أنشأتَ مكتبةً يسيرُ في هديها شيبٌ وأطفالُ
جَمَالُ طبعِكَ حلاها وزينها فأصبحت بجمالِ الطبعِ تختالُ

آثاره الأدبية والنقدية

بدأ حياته الأدبية والنقدية بأسماء مستعارة، تأثر كثيرًا بأبي العلاء المعري وابن الرومي وجحا العربي؛ فهو جماع بين المعري المتجهم العابس وجحا الباسم الساخر، وقد عاش معهما على ما بينهما من تناقض في أسلوب العيش وعمق التفكير، وقال إنهما يجمعان في نفسه أهواءه وآراءه وأصداء نفسه، وربما أخذ عن ابن الرومي انقباضه وعزلته عن الناس.

حقق رسالة الغفران للمعري وشرحها بإيجاز، وشرح ديوان ابن الرومي وكتب عباس العقاد مقدمة الديوان، وكذلك ديوان ابن زيدون، وكتب عن جحا المصري (دجين بن ثابت) وأثبت أن وجوده سبق جحا التركي (نصر الدين خوجة). كتب بشكلٍ مبسط رحلة ابن جبير، وحي بن يقظان التي كتبها ابن الطفيل للكبار. ومن كتبه الخيالية: صورة من الشرق والغرب، صور جديدة من الأدب العربي، نوادر جحا، رحلات جليفر، دون كيشوت. كتب بعضًا من روايات شكسبير، وقدمها للأطفال بطريقة تناسبهم، ومثال على ذلك تاجر البندقية ويوليوس قيصر. تأثر كيلاني بالأسلوب القرآني؛ فقصته (الأمير الحادي والخمسون) مستوحاة من قصة النبي يوسف عليه السلام، وقصة (عجائب الدنيا الثلاث) مستوحاة من قصة سيدنا موسى عليه السلام، وقصة (قابيل وهابيل) مأخوذة من القصة القرآنية عن الرجلين.

أما عن كتبه التاريخية؛ فمنها مصارع الخلفاء، مصارع الأعيان، حياة الرسول، نظرات في تاريخ الأدب الأندلسي. وفي مجال الترجمة، ترجم كتاب (ملوك الطوائف ونظرات في تاريخ الإسلام) للمستشرق الهولندي رينهارت دوزي، وقد ترجمه جريًا على نهج أستاذه محمد عبده، وقد ترجم عبده كتاب (علي بابا للمؤلف جيمس مورو) إلى الفارسية، وناشد الإيرانيين بالانتباه لما هم فيه من تأخر، وحثهم على استدراك ما فاتهم من العلوم والآداب. هذا يفسر لنا سبب ترجمة كامل كيلاني للكتاب الذي يقدم صورة مغلوطة عن المسلمين؛ فمعرفة ماذا يقول عنك الآخر وكيف ينظر إليك، ترشدك للطريقة التي تتعامل بها مع هذه النظرة وكيف تعالجها.

له ديوان شعر موسوم بـ(ديوان كامل كيلاني للأطفال) أعده للنشر عبد التواب يوسف، ونشر بعض قصائده في مجلة أبوللو الشعرية، وقد استقصى الدكتور أحمد زلط في كتابه أدب الطفولة بين كامل كيلاني ومحمد الهراوي بعض الأناشيد والأشعار. في مقالٍ حول أدب الأطفال، كتب زكي مبارك: (…أشهر المؤلفين في هذا الباب رجلان؛ محمد الهراوي وكامل كيلاني، وهما بعيدان عن التدريس)، ومحمد الهراوي أول شاعر للأطفال في مصر والعالم العربي، وله دواوين عديدة أولها (سمير الأطفال) المنشور سنة 1922، ولُقِّب برائد شعر الطفولة، وأمير شعر الطفولة.

ترجمت قصصه لأربع عشرة لغة منها الصينية والروسية والإنجليزية والفرنسية والمالاوية والألمانية. يقول الأستاذ أنور الجندي في كتابه أعلام لم ينصفهم جيلهم: (وبلغ الهند وباكستان حين ترجم قصصه بالإنجليزية، وتُرجمت للعبرية والصينية، وكان مدرس اللغة الصينية يقول لتلاميذه: هناك بلد اسمها مصر، وفي مصر كامل كيلاني مؤلف القصص التي تقرؤها). وقبل أن نمر على هذا الاقتباس؛ فإن اليهود حاولوا غير مرة أن ينسبوا كامل كيلاني إليهم، وأنه من عائلة يهودية كانت تقطن حي عابدين، وهذا من باب التدليس والسطو على التاريخ، بل أسسوا مركز كامل كيلاني لكتب الأطفال في تل أبيب! ورد عليهم أبناء الكيلاني في أكثر من مناسبة.

مكتبة كامل كيلاني (الأولى في العالم العربي لأدب الطفل)

يشهد شاعر القطرين جبران خليل جبران لريادة الكيلاني في أدب الأطفال: (لو لم يكن للأستاذ الكيلاني إلا أنه المبتكر في وضع مكتبة الأطفال بلسان الناطقين بالضاد؛ فكفاه فخرًا بها، ما قدمه لرفع ذكره، وما أحسن به إلى قومه وعصره). وخلال سيره في شارع الفجالة بقلب القاهرة، لم تقع عينه على مكتبة واحدة في هذا المكان – الذي يعد مركزًا رئيسًا للمكتبات في مصر – تتخصص في أدب الطفل؛ فقرر سنة 1948 تأسيس مكتبة للأطفال في 28 شارع البستان بباب اللوق.

وفي صمت الكبار، رحل كامل كيلاني في التاسع من أكتوبر/ تشرين الأول 1959، تاركًا بصماته في قلوب أجيال، وإن لم يلقَ تكريمًا رسميًا؛ فتكريم القراء له يظل الأكثر صدقًا والأبقى أثرًا.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد