أمام نزيف الدويلات الإسلامية بالأندلس لم يكن للأندلسيين مندوحة من طلب معونة إخوانهم عبر البحر وكانت قد بزغت عندهم قوة صحراوية كبيرة هي المرابطين وقائدهم (يوسف بن تاشفين).

وكان (يوسف بن تاشفين) شرهًا وتواقًا لرفع راية الإسلام في كل مكان فلم يتوانَ لحظة عن نجده المسلمين في الأندلس، وعبرت قوات المرابطين يقودها يوسف إلى الأندلس وانضم إليه الأندلسيون ضد النصارى.

ودارات رحى معركة عظيمة تسمى (الزلاقة)، وانتصر المسلمون المتحدون – أندلسيون ومرابطون- على خصيمهم الإسباني، ولم يتبق من جيشه البالغ أربعين ألفًا سوى مائة أو مئات.

بعد المعركة عاد (ابن تاشفين) إلى المغرب، فأتاح الفرصة لـ(أذفونش ملك النصارى) أن يلتقط أنفاسه. ودب النزاع بين الأندلسيين بعضهم وبعض، وبينهم وبين المرابطين، بل استعانوا بالنصارى في صراعهم مع بعض.

فعبر (يوسف بن تاشفين) إلى الأندلس للمرة الثانية وقضى على كل ممالك الطوائف ووحدها تحت لوائه باستثناء (سرقسطة)، ويبدو أنه خشي من أنه في حالة مساعدتهم من الممكن أن يقلق أهالي سرقسطة فيضطروا إلى الاستسلام للنصارى، وقد كانت سرقسطة محاطة بالنصارى وممالكهم من كل اتجاه فرأى (يوسف بن تاشفين) أن يترك أمر الدفاع لأهل (سرقسطة) بقيادة (بني هود).

وفي جوازه (عبوره) الثاني للأندلس أخذ يمكن لنفسه في الأرض بعد أن أخضع الطوائف سياسيًّا له؛ فعهد بالمناصب العليا (الإمارة- الولاية) إلى المرابطين، واعتمد على أهل الأندلس في المناصب الأخرى (الكتابة- القضاء).

مات (يوسف بن تاشفين) وخلفه ابنه (على بن يوسف). ويبدو أن (أذفونش السادس) قد اعتقد أن موت غريمه (يوسف بن تاشفين) يعني أن يعاود الظهور بالساحة الأندلسية؛ فعاث في إقليم إشبيلية وأرسل قائده الكبير (البارها نيث) لحصار المسلمين في أقليش حيث دارت معركة كبيرة تسمى (أقليش) وتشبه الزلاقة في ضراوتها وأهميتها، وانتهت إلى هزيمة النصارى ومصرع سبعة من قوامسهم (كبار قادة بالكنيسة)، ومعهم ولد (أذفونش) الوحيد ويدعى (شانجة).

نتيجة لمعركة أقليش مات (أذفونش) غمًّا لفقد ولده وقاد (على بن يوسف بن تاشفين) سلسلة من الغزوات لأراضي النصارى واستولى في إحداها على (طلبيرة) وعدة حصون أخرى وحاصر (طليلطة)، ولكنه لم يستطع أن يأخذها لمناعتها واكتفى بتخريب أحوازها.

لم يغفل المرابطون أمر (سرقسطة) وهي مملكة الطوائف الوحيدة التي كانت خارجة عنهم، وكان صاحبها (عماد الدولة بن هود) قد ارتمى في أحضان النصارى وأفتى الفقهاء بخلعه ونجح المرابطون في دخول المدينة في سنة (503 هجريًّا) وكان استيلاؤهم عليها حافزًا لهم على استعادة الجزائر الشرقية (ميورقة- منورقة- يابسة) بعد ست سنوات.

على أن المسلمين أصيبوا في سنة (512هجريًّا) بنكبة كبيرة في (سرقسطة) تشبه نكبتهم الكبيرة في سنة (478 هجريًّا) في طليطلة. فقد استطاع ملك أرغونة (أذفونش الأول) والذي لقب بالمحارب أن يستولي على (سرقسطة) وألحق بالمسلمين هزيمة قاسية في (معركة كتندة) عام (514 هجريًّا)، وفي أعقابها سقطت في يديه مدن عديدة وأيده النصارى المعاهدون بعدة آلاف من مقاتليهم، وأخفق المرابطون في التصدي له.

ثم حاصر (أذفونش) مدينة (إفراغة) حصارًا شديدًا وهرع المرابطون لنجدتها فدارت تحت أسوراها معركة انتصر فيها المرابطون على النصارى، ومثلما مات أذفونش الليوني (صاحب ليون). بعد هزيمته غمًّا فكذا كانت حال (أذفونش الأرغواني) صاحب أرغونة.

كانت معركة إفراغة خاتمة المعارك الكبيرة التي خاضها المرابطون بالأندلس ثم غرقت الأندلس في بحر الفتن والثورات من جديد، فلم ينسَ الأندلسيون ما فعله المرابطون معهم بعد سحق الطوائف وما جرى من إذلالهم؛ فثاروا في سنة (514 هجريًّا) بقرطبة واشتدت ثوراتهم عندما ترامت إليهم أخبار الصراع بين المرابطين والموحدين، ومثلما حدث في زمن الطوائف فقد استنصر بعض زعماء هذه الثورات بملوك النصارى وخاصة (أذفونش السابع) ملك ليون، والذي عرف عند المسلمين بـ(السليطين)، وقد استطاع في النهاية أن يدخل قرطبة (العاصمة الإسلامية)، وما لبث النصارى أن شكلوا حملة بحرية استولت على ثغر المرية الكبير و(طرطوشة ولاردة وإفراغة ومكناسة) وكان ذلك إنذارًا بسقوط دولة الإسلام بالأندلس، وكان احتلال العاصمة الإسلامية ناقوس الخطر لبداية السقوط الفعلي والحقيقي لدولة المسلمين بالأندلس.

كما كتب الله للأندلس قبلة الحياة على أيدي المرابطين، فكذلك أعطاها قبلة أخرى ربما تكون القبلة الأخيرة للحياة قبل السقوط، ولكن هذه المرة على يد القوة الناشئة في صحراء المغرب قوة الموحدين.

فشرع الموحدون في التوجه نحو الأندلس وبمجرد عبورهم انسحبت قوى النصارى من العاصمة الإسلامية (قرطبة)، وكانت الأندلس تموج بالثوار الذين دخل بعضهم في طاعة الموحدين والبعض الآخر استمر في ثورته وكان من هؤلاء (بني غنية وينتمون إلى المرابطين) بالإضافة إلى (محمد بن سعد بن مردنيش وصهره ابن همشك في مدينة مرسيه) وكان الصراع سجالًا بينهم وبين الموحدين.

نجح الموحدون في استرداد المرية وإخماد ثورة (ابن مردنيش) وفي تلك الأثناء توفي (أبو يعقوب يوسف) القائد الموحدي وخلفه ولده (أبو يوسف يعقوب) الذي تلقب بالمنصور، وفي عهده اشتد حمى القتال مع النصارى وبلغت أوجها في (معركة الأرك) بين الموحدين وأذفونش الثامن (ملك النصارى) حينها، وكتب الله النصر للموحدين، وبعد المعركة توقف المد النصراني إلى حين واستعاد المسلمون عدة حصون في غربي الأندلس.

وكان أذفونش قد اعتزم أن يأخذ بثأر هزيمته في الأراك وأيدته البابوية كما أيدته الممالك الإسبانية الأخرى، وأتاه صليبيون من أنحاء أوروبا كافة ودارت رحى معركة عظيمة بينهم وبين الموحدين تسمى معركة (العقاب).

ومني المسلمون بهزيمة كبيرة فعشرة آلاف منهم هلكوا في المعركة، وترتب على تلك الموقعة أن بدأت الدولة الموحدية في بلاد المغرب مرحلة أفولها، أما في الأندلس فإن النصارى لم يتوانوا في استثمار الفرصة التي واتتهم بهزيمة المسلمين المروعة في العقاب، وتوالت سقوط المدن الأندلسية واحدة تلو الأخرى في أيدي النصارى ومنها (إشبيلية- جيان-مرسيه- بلنسية) وكانت الفاجعة بدخول (فرذلند الثالث)، ملك (قشتالة) قرطبة في 22 شوال 633 -29 يونيو 1236.

بعد غروب شمس الموحدين عن الأندلس وقع عبء المقاومة على أهل الأندلس أنفسهم، وبرز على الساحة زعيمان عربيان هما (محمد بن يوسف بن هود الجذامي – ومحمد بن يوسف بن نصر الأنصاري الملقب بالشيخ).

وانتهت حياة الأول بالاغتيال في سنة 633 هجريًّا، أما الآخر ويعرف بـ(ابن الأحمر) أيضًا فاتخذ من مدينة غرناطة معقلًا له وأتته أجناد من أنحاء الأندلس وامتدت سيطرته إلى مدن مجاورة، ولكن بعد سقوط قرطبة دخل في ولاء (ملك قشتالة) وأعانه في الاستيلاء على (إشبيلية).

تغيرت الخريطة السياسية لبلاد الأندلس تمامًا فأصبح بها أربع ممالك أو قوى سياسية، منها ثلاثة نصرانية: (قشتالة- أرغونة- البرتغال) وأخرى إسلامية: (غرناطة الإسلامية) والتي شغلت مساحة تقدر بعشر البلاد، ورغم كونها أضعف هذه الممالك إلا أنها عاشت ما ينيف على القرنين والنصف قرن (635-897).

والسبب الحقيقي لامتداد عمر غرناطة يكمن في الصراع بين الممالك النصرانية الثلاثة، وفي النزاعات داخل المملكة الأساسية (قشتالة)، وكانت غرناطة تتدخل في النزاعات أحيانًا وتناصر فريقًا على الآخر.

وتحددت سياسة (غرناطة) في مصانعة (أرغونة) المنافس الأقوى لـ(قشتالة) وأيضًا في التحالف مع (بني مرين) سلاطين المغرب الأقصى، ولكن عندما يستبد الخوف في (غرناطة) من (بني مرين) تميل غرناطة إلى مصانعة (قشتالة) وخلال المائة عام الأولى تبادلت (غرناطة – قشتالة) النصر والهزيمة.

وسرعان ما جرت تطورات أفضت إلى نتائج خطيرة فضعفت مملكة غرناطة بسبب الصراع على العرش داخلها، ثم افتقارها للظهير المغربي القوي، بذهاب دولة بني مرين في سنة 869 هجريًّا، ولم يكن خلفاؤهم من (بني وطاس) من القوة ليقدموا العون لمملكة غرناطة.

وفي المقابل حدث تطورات خطيرة في إسبانيا النصرانية ففي سنة (1474 ميلاديًّا) مات (أنريك الرابع) ملك قشتالة وخلفته أخته (إيسابيل) التي كانت متزوجة من أمير أرغونة (فرناندو)، ثم اتحدت المملكتان معًا ضد مسلمي غرناطة.

بدأ (فرناندو– إيسابيل) حملتهما لغزو مملكة غرناطة واستغرق هذا الغزو عدة سنوات، ولم يجد أهل غرناطة سبيلًا إلا التفاوض مع أعدائهم وتم توقيع معاهدة من ست وخمسين مادة (معاهدة تسليم غرناطة).

 

وفي اليوم الثاني دخل الملكان المدينة ورفعت راية القديس يعقوب أعلى الأبراج بحمراء غرناطة، وانطلق الرهبان يرتلون: الحمد لله.

وكان آخر ملوك غرناطة هو (أبو عبد الله) الذي انتهى به المطاف بمغادرة غرناطة والعيش في قرية اقتطعها له ملك إسبانيا فأقام بها فترة مديدة، ثم رحل إلى (فاس) ببلاد المغرب إلى أن مات هناك سنة 940 هجريًّا.

وحينما غادر غرناطة وهو يبكي، قالت له أمه قولتها التي خلدها التاريخ:
(ابكِ مثل النساء ملكًا مضاعًا لم تحافظ عليه مثل الرجال).

وما زلنا نبكي كل يوم وليلة على الأندلس (الفردوس المفقود) تارة، وعلى فلسطين تارة أخرى، وعلى كل جزء في وطننا الكبير الصغير. لا زالنا نبكي ولا نجد سلوى في أيامنا غير البكاء.

ولكن علمنا التاريخ أن البكاء على اللبن المسكوب لن يعيده مرة أخرى، ولا عودة لحضارتنا وعزنا الزائل الذي كان ممتدًا من الأندلس غربًا إلى السند شرقًا إلا بالعمل والوعي والعلم والتقدم. أسأل الله أن أكون قد وفقت في عرض جزء يسير من تاريخنا المنير في حقبة من أهم الحقب وأزهها حقبة الفردوس المفقود وتاريخ المسلمين بأرض الأندلس.

والله الموفق قبلًا ومن بعد
انتهى، وما توفيقي إلا بالله

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد