حي الكواكبي، حلب 2016
أنامل كاتب مرموق تولد هاهنا، في الأرض التي شهدت نَبْت مجابه الاستبداد التاريخي عبدالرحمن الكواكبي صاحب الطبائع، الذي أقام هنا أوائل القرن الماضي، وزين الحيّ بحديقة حملت اسمه كما الحي، حديقة طالما ثارت أشجارها، تمامًا ككلماته.
على خطى الكواكبي، سار صديقنا، لطالما تمنى أن يصير كالكواكبي، وأن تتحول تلك المساحة الصغيرة أمام بيته، التي يصفها أبوه بالحديقة، إلى أخرى في ميدان آخر من ميادين الكواكبي.
كلماته لم تكن سوى نبت جمال ما يرى ويسمع كل يوم، إنها حلب، حيث صنع التاريخ، وتكالبت أمم على أمم، وتآكلت تيجان، واهتزت ممالك، وسقطت عروش، الممالك لا تنبت إلا ملوكًا، ملوك القلم، واللحظ، والبيان.
ليلتها، استغرق صديقنا في تفكير عميق، كان ينظر إلى الحديقة الصغيرة في ردهة منزل أبيه من وراء قضبان نافذة غرفته الحديدية، ربما يعمر تلك الحديقة ذات يوم، ربما تستحيل زهورها حروفًا يشدو بها القاصي والداني، ربما أقاموا له في ركن حديقة الكواكبي نصبًا، يخلد كلماته حين يصبح كاتبًا مشهورًا، ثم توافيه المنية، وإذا هو جزء من تاريخ الكواكبي وحلب.
نام مطمئنًا، أثناء نومه رأى فيما يرى النائم، مجنزرات تقتحم شارعه الصغير، تجوب المدينة، تحمل الرؤوس مقطوعة، شم رائحة الدماء تختلط بحجارة الشوارع، سمع صوت صراخ ليلى جارته الصغيرة، التي طالما نسجت كلماته سجادًا أحمر تمشي عليه ذهابًا وجيئة، دون أن تعلم أن كل تلك الفُرُش مكتوبة بقلم ذلك الولد، الذي أحبت مداعباته كثيرًا، ونظرته لشرفتها القريبة من الشارع، مع كل هدف عبقري يحرزه بالكرة أثناء لعبه في الكواكبيّ.
صراخ ليلى لم يكن الصوت الوحيد، لقد سمع صوت أمه تناديه فَزعةً: «هيا.. استيقظ»، تحول الصوت فجأة إلى هزة لم تكن جزءًا من حلم، أدرك أن كل ما رآه لم يكن حلمًا، انتقل نقلة لم يستوعبها تاريخه الروائي القصير، وفجأة، ودون أن يفهم لمَ، وجد نفسه في طابور طويل، على جانبيه جنود أثقلهم السلاح، يطلقون هرطقات أعجمية لم يتبين منها شيئًا، فقط تبين الدفع الذي يصل إلى الضرب في بعض الأحيان، بينما أمه تسحبه من يده في قوة، سأل عن أبيه ولم يتلقّ إجابة، لم يسمع إلا توسل السائرين في الطابور لمن عرف بعد حين أنهم «الروس»، توسل لم يكن يرمي إلا لتركهم يمرون إلى المجهول، المجهول تمامًا.
حولت أمه الوضعية من سحب، إلى حمل على ساعدها، تأرجحت بطنه تمامًا على الساعد، مع غلظة لم يعهدها منها، ونحيب لم ينقطع تحاول أن تكتم أناته، ربما كانت غلظة من تفر من الموت إلى احتمال حياة.
في تلك الوضعية، تعلقت عيناه بالحديقة التي يبدو أنه سيتركها، سيترك ورودها ولن يستطيع أن يحولها إلى كلمات، هنا لم يكن شيء ليعيقه عن التشبث بما تبقى من أمل، ولا حتى أمه، التي دفع يدها في قوة، وهبط على الأرض، وركض عكس الأمواج الهادرة السائرة بطول الطابور، لم يلتفت لصرخة أمه وهي تناديه باسمه، لم يلتفت لأي شيء، فقط عاد، علق على بطنه على سور حديقته الصغيرة، التقط وردة، وعاد لأمه، وربما نسج من تلك الوردة كلمات، تصلح لأن يكتبها لليلى من جديد!
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست