جاء ابن خلدون بعد وفاة ابن تيمية بأربع سنوات، كان قد سبقه إلى خشبة المسرح، ابن رشد ثم الغزالي ثم ابن تيمية، مشكلين مشهدًا معرفيًّا إسلاميًّا لا يزالون ممثليه حتى اللحظة. جاءت الرشدية شارحة للمنطق الأرسطي، لحق بها الغزالي ففند مبدأ العقلانية التي سيطرت على أذهان الفلاسفة والمناطقة القدامى وأنزلها منزلتها – القول الذي ستقول بها الكانطية بعد سبعة قرون من الغزالي – راسمًا بذلك الخطوط العريضة لنقد السببية، ليأتي ابن تيمية مكملًا من بعده ومشككًا في صحة الكليات العقلية التي وضعها المناطقة القدامى، كالقياس والاستنباط المنطقي، واضعًا بذلك بذور المنهج الاستقرائي الواقعي، والذي سنجدها جليًّا لدى ابن خلدون في خلدونيته.

جال ابن خلدون (1332 -1406م) بين مصر والمغرب العربي والأندلس، ورأى آثار الحضارة الإسلامية في تلك البقاع، بعد أن اطلع وهضم ما جاء به من سبقوه، بانت له بذور انحطاط تلك الحضارة، ومن كل ذلك انبثقت الفلسفة والثورة الخلدونية على الفلسفة القديمة، راسمًا بذلك منهجًا معرفيًّا ينتظر من يأخذ به إلى التأسيس والنظرية. ذهب ابن خلدون وظلت الخلدونية عالقة في التاريخ تنتظر من يكمل نسقها المعرفي نحو الريادة، وذلك ما لم يحدث إسلاميًّا. يعلق الوردي بقوله: «ولو أتيح للحضارة الإسلامية أن تواصل نموها وازدهارها بعد هذه الفترة التي ظهر فيها ابن تيمية وابن خلدون، لربما رأينا المنهج الاستقرائي يتطور أكثر مما رأينا على يد هذين المفكرين العظيمين».

ابن خلدون في كتب المفكرين العرب

ابن خلدون عند العروي

تنبه الباحثون العرب إلى ابن خلدون بعد أن قرؤوا علم الاجتماع الغربي بصيغه وتطوراته وحيثياته حتى وصل إلى الشكل الذي نراه اليوم، حدث ذلك بعد أن عرفوا أمثال مونتسكيو، وماكيافلي، وأوجست كونت، وأمركهايم، وماكس فيبر، وربما لو أنهم عرفوا ابن خلدون قبل كل هذه الأسماء لربما ظهر ابن خلدون بشكل آخر في كتاباتهم.

يقول العروي: آه … لو اطلع ابن خلدون على ما كتب قبله في أخبار اليونان وروما! يقول اعتمد ابن خلدون هو الآخر منهج المقارنة، ولكن بين من ومن؟ بين البدو والحضر، العرب والفرس، العرب والترك، العرب والبربر.

يذكر العروي أن ماكيافلي كان يقارن بين النظام الجمهوري والنظام الأميري، بين روما القديمة وإيطاليا الحديثة، كان همه كيف يؤسس لدولة لتدوم، يقول إنه سؤال عملي لا يلزم صاحبه التوسع في المقارنة، والمقارنة كما يقول العروي في دراسات وأبحاث سابقة له، هي أساس العلوم الاجتماعية كلها، من سياسة وتاريخ وأنثروبولوجيا، وحسب قوله ما ميز مونيستكيو على ماكيافلي وماكيافلي على ابن خلدون، هو مدى المقارنة، فمقارنة ابن خلدون حس وصفه كان همها المعلن تمحيص الأخبار، قد ينتهي القارئ بالاتعاظ أو قد لا يفعل. يضيف العروي أن المؤلف، أي ابن خلدون، لم يعد في حاجة إلى الاستفادة، لقد جرب وفشل، لذا كل ما يصبو إليه ابن خلدون هو كيف يستفيد غيره، يذكر العروي ذلك في ترجمته لكتاب تأملات في تاريخ الرومان لمونتسكيو، فقد عد ابن خلدون في المرتبة الثالثة، بعد مونتسكيو وماكيافلي، ثم ينهي هذه الفقرة بقوله: وإذا كان ماكيافلي ينظر لمخطط السياسة العملية، فابن خلدون (يمهد)، ولم يقل يؤسس، للسيسيولوجيا علمًا مساعدًا لقراءة التاريخ.

الحتمية التاريخية عند ابن خلدون وماكيافلي ومونيستكيو

يرى العروي أن الحتمية التاريخية عند مونيستكيو تبدو أكثر تشددًا، فهو يقول: إن الجمهورية لو لم تمت على يد يوليوس قيصر لماتت على يد زعيم آخر يتصف بأوصاف قصير. يقول إن جيش هنيبعل لو لم ينحل في قصور «كابو» لانحل في قصور أية مدينة غير «كابو»، بينما الحتمية لدى ماكيافلي أقل تشددًا؛ إذ يناصفها مع الإرادة البشرية، الحظ نصف، والعامل البشري النصف الآخر، ثم يضيف، أي ماكيافلي: إن لكل دولة مساحة لا يجب أن تتعداها، وهي نظرة تنطبق تمامًا مع الفكرة التي جاء بها وهي «التأسيس لبقاء الدولة» بينما يقول ابن خلدون إن لكل دولة عمرًا لا تتجاوزه أبدًا، كذلك جاءت نظرة ابن خلدون تاريخية عمرية، فالرجل كما يقول العروي كان يساعد على قراءة التاريخ.

يعلق العروي على تلك الحتميات بقوله:

ما يبرز مدى الجبر والحتمية لدى الرجلين (ابن خلدون وماكيافلي) هو استحالة الإصلاح بعد أن تظهر في الدولة ملامح الانحطاط، والسبب هو تغير الأحوال، كل دولة تنمو وتتسع بسبب مزايا خاصة في ظروف ملائمة، بعد حين تنقلب الأوضاع، فتتحول تلك المزايا إلى عوائق، عندها لا بد من إبدال تلك الصفات بأخرى مناقضة لها تساير الظروف الجديدة. يقول العروي لكن هذا التطور غير ممكن إذ لا أحد يتصور أن ما حصل بسبب أمر ما قد يتجدد بعكسه، ينهي العروي هذه الفقرة معلقًا عليها: التاريخ في مجملة يحكم لصالح نظرية مونيستكيو المستمدة من تجربة روما. كل دولة، بالمعنى الواسع، تنمو لأسباب موضوعية، ومادية وتنظيمية وخلقية، ثم تنحط وتنهار لنفس الأسباب التي لم تعد توافق الظروف التي عملت هي على إنشائها، يضيف أيضًا، لم يكن بمقدور الجمهورية الرومانية أن تتوقف عن التوسع، كما يقول مونيستكيو، وبعد أن تأسست إمبراطورية لم يكن في الإمكان الحفاظ على النظام الجمهوري.

يرى العروي أن الفرق في التأسيس بين مونيستكيو وابن خلدون، هو أن الأول يملك غزارة في المصادر أكثر من الأخير، كما أن الأول نظر فيما كتبه القدماء والمحدثون، بينما ابن خلدون اعتمد كليًّا على القدماء، الأخير اعتمد في نصوصه على مراجع معربة لفظًا ومفهومًا، وهنا حسب وصفه يكمن الخطر، لكي تكون المقارنة مفيدة حقًّا، لا بد من المحافظة على أصالة وفرادة المواد المزمع مقارنتها. كما أن ذلك التعريب القديم كان يمشي وفق منهجية المماثلة، لا منهج المقارنة، فطمس ذلك التعريب الخصوصيات التي هي لب التاريخ، فتراجمتنا كما يقول نقلوا عن لغات ميتة، بينما نحن اليوم ننقل عن لغات حية.

ابن خلدون عند طه حسين

كانت الأطروحة التي قدمها طه حسين لنيل درجة الدكتورة من السوربون عن ابن خلدون، هي المحاولة الأولى في دراسة ما جاء به ابن خلدون تحت عنوان «فلسفة ابن خلدون»، يذهب طه حسين ومعه ساطع الحصري إلى أن نظرية ابن خلدون تدور حول موضوع الدولة والعصبية، كما ولو أنها تشبه كتاب «الأمير» لماكيافلي، ويستنتج طه حسين من ذلك أن ابن خلدون لا يجوز أن نمنحه لقب عالم اجتماعي أو نضعه في مصافي علماء الاجتماع الحديث، ذلك لأن موضوع الدولة الذي يقول به ابن خلدون أضيق من أن يصلح موضوعًا لعلم الاجتماع، على عكس ما يقول به بعض المفكرين الأوروبيين الذين اعتبروا صاحب المقدمة «المؤسس الأول لعلم الاجتماع»، ومنهم الإيطالي «فريرو» عام 1896، والبولندي «غمبلوفيتش» عام 1905.

ابن خلدون عن الوردي

يخالف الوردي طه حسين، ففي رأيه أن نظرية ابن خلدون تدور حول موضوع هو أوسع نطاقًا وأكثر شمولًا من موضوع العصبية والدولة، فهي حسب ما يظن تدور حول البداوة والحضارة وما يقع بينهما من صراع، وهي العناوين التي ستغلب على النتاج الفكري للوردي في دراسة المجتمع العراقي. برأي الوردي أن للنظرية الخلدونية جانبين: الأول سكوني والثاني حركي، الأول هو تعيين في خصائص البداوة والحضارة، والثاني هو دراسة التفاعل بينهما، وبرأي الوردي أن كونت وسبنسر اهتموا بهذا التقسيم في دراساتهم الاجتماعية، ويرى أن العلوم الحديثة ودراسة الظواهر الاجتماعية تنحي هذا المنحى. يرى الوردي أن هناك شيئًا من ضيق الأفق في نظرية ابن خلدون، فهو قد درس المجتمع الذي عاش فيه وظن أن المجتمعات البشرية كلها من طراز ما درس. ولكن رغم ذلك يقول إنه وفق فيها كل التوفيق.

ابن خلدون عند الجابري

اختلفت نظرة الجابري إلى ابن خلدون كثيرًا عما ذكره المفكرون سالفو الذكر، فقد سمى ما جاء به ابن خلدون بالنظرية أو الفلسفة الخلدونية، وفي هذا الصدد يقول الجابري في مؤلفه «نحن والتراث» إننا نقصد بالخلدونية هنا ما كان صالحًا في فكر ابن خلدون لآن يحيا حياة جديدة ومتجددة، ومن ثمة فإن ما نعنيه بما تبقى من الخلدونية هي العناصر التي تنتمي إلى الخلدونية بهذا المعنى، والتي ما زالت تحتفظ بشكل أو بآخر بإمكانية الحياة معنا نحن أبناء الوطن العربي في القرن العشرين.

يقول الجابري: وبالفعل ما زالت الإشكاليات التي تطرق لها ابن خلدون معاصرة لنا أي قابلة لأن تدمج في إشكاليتنا الراهنة، وقابله لأن تتفاعل معها وتساهم في توضيحها وتوفير الشروط الضرورية لتجاوزها. ومن هنا يقول الجابري الخلدونية توجه إلى الماضي، ومن واجبنا توجيهها إلى المستقبل. بأخذ إيجابياتها وترك سلبياتها وعوائقها. ثم يختم كلامه بقوله: الخلدونية مشروع نظري وواقع حضاري، إنها في آن واحد نظرية في التاريخ وجزء من هذا التاريخ نفسه. وما يبهرنا في الخلدونية أنها لا زالت تستهوينا وتبهرنا هو أنها تتحدث إلينا عما لم نستطع نحن الكلام فيه بعد، وبعبارة أخرى، لنحصل على الخلدونية كنظرية مستقبلية تخطط لنهضتنا. وهذا ما لن يتم لنا إلا إذا تحررنا من عوائقها الأبستمولوجيا وجعلناها ترى في حاضرنا نحن ما لم تكن تراه في حاضرها هي.

ختامًا يقول الجابري: «إن ما تبقى من الخلدونية هو ما يجب أن ننجزه وليس ما أنجزته».

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد