في مواقف بديعة يحكي لنا الصعلوكان عن نماذج بشرية، نراها تنتظم عبر أنماط من العلاقات السلطوية السياسية التي يمثّلها الضابط ورجل القضاء، والرفض الذي يمثله صعلوكانا، وتتوزّع علاقات السلطة في أحاديثهما داخل فضائهما السردي. وبعد موقفٍ دالٍ بينهما وبين طفل صغير، يجيب عندما سألاه عن اسمه، أنا ابن المستشار، نرى رفضهما لمقولة شھیرة في خرموبولیس، بلغت من فجرھا أن لھا مروجین، وھي أن بیئة قضائیة، زائد تقدیر مقبول، تعني وكیل نیابة ناجح، وصار القضاء بالتوریث، ومنطقیًا مسموح لنا أن نتساءل كیف لقاض بدأ حیاته مغتصبًا لحق غیره أن یكون عادلًا؟
وتتفجر الأسئلة في ذهني، حول الصراع الاجتماعي داخل المجتمع الاستبدادي، من خلال إبراز حضور طاغ لأجهزة دولة خرموبوليس في حياة أفرادها حاكمين ومحكومين، وفي لا وعيهم. حتى أصبحوا كالسائرين نیامًا رغم يقظتهم. وتشخيص هذه الحالة هو أن العقل يفكر بسلبیة أكثر مما یتحمل، مقارنة بتحمل الجسد، ویظل يعمل حتى أثناء النوم، فتحدث الكوابیس ومع تكرارها بلا حل أو تنفیس، یُجھد العقل بنسبة أكثر من إجھاد الجسد، فیدخل الإنسان في مرحلة السیر نائمًا، جسدٌ مستریحٌ، ولكن بلا عقل.
يتم تربية الرعاع على عدم المساس بخرموبوليس ولو داخل أحلامهم، فهي مزروعة في كل مكان، حتى في دهاليز أحلامهم، لقد أصبحت كلية الحضور في وعي ولا وعي الرعاع.
ولكن هل يثور السائرون نیامًا؟ یقال إن الإنسان لا یثور تحت ضغط العبودیة أو حتى الجوع، ولكن یثور عندما یفسد القانون الذي سیھدد حیاته ذاتھا، وعندما تتساوى الحیاة مع الموت، تكون الثورة أمرًا لازمًا. فالثورة ھي مخاطرة بالحیاة للحیاة، ولیس بالحیاة للرفاھیة، ولیست للاحتلال، فالثورة لیست حربًا، ولا یقوم بھا أبدًا أصحاب الرتب العسكریة؛ لأنھم یقومون بانقلابات لغرض الامتیازات، وھذه حقیقة مثبتة، وفقط في جمھوریات الموز یسمون الانقلابات ثورات، بینما العالم الإنساني یسخر من تغییب التعاریف وتزییفھا عند قادة ومروجي الانقلابات.
وظيفة الجلاد، ليس إقناع أحد، بل ترويض الجميع. ترويض بمعنى إعادة تشكيل الإدراك والأفكار والقناعات والعواطف، وامتلاك الإنسان من الداخل. ومن آلياته، إيقاف التفكير، والتنفير من سلوك وأفكار التمرد. كل هذا بينما خلايا السرطان تنخر في الجسم وتتضخم على حساب خلاياه الطبيعية، ولا يتعرف عليها الجسد لمدد طويلة، وفي النهاية يموت الجسد، بعد أن تأكل الخلايا السرطانية كل مقدراته.
لكل هذا عاد الصعلوكان محبطين وساخرین من رحلة شرم الشیخ.
الحكایة الأخیرة: وداع الصعالیك
قد يكون الزمن الذي نعيشه هو الزمن المثاليّ للكتابة، أو هكذا يظنّ مَن يقرأ في كتب النكبات التاريخيّة. فخيال المجرمين والقتلة أكثر اتّساعًا من خيال الكتّاب والشعراء؛ لأنّه خيال متحرّرٌ من أيّ رادع أخلاقي أو حساسيّة إنسانيّة. وما بين صوت السلطة، وصوت الفرد المقهور، كيف يتخلّص المرء من التاريخ والمكان؟ الوطن ليس المكان الذي نولد فيه فقط، ولكن قد يكون وعدًا إلهيًا يجرّ خلفه أحداثًا كبرى. أما المكان فيُعتقد أنه محلّ للميلاد، ولا يجوز لإنسان أن يُعاقب، لأن أمّه ألقت به هنا.
بتلك الطريقة سيتحوّل العالم إلى قريةٍ واحدةٍ متماسكة، وهو الحلم الذي نادى به الفلاسفة في كلّ العصور. لن تكون هناك يوتوبيا أبدًا، ولكن هذا لا يعني أن يسير العالم نحو نهايته، أو يسعى إلى الفتْك بالآخر. علينا أن ندرك أن الحدود صناعةٌ بشريّةٌ، وأن الوطنَ عزيزٌ، ولكننا في كلّ الأحوال بشرٌ نتشارك الإنسانيّة.
لقد انهارت كل الأضلاع: انهار خطاب السلطة الاستبداديّة بعد فقْد كلّ مسوّغاته، وتحوّل إلى خطابٍ قمعي، يمتلك طاقاتٍ لا حدود لها على تدمير المجتمع. وانهار خطاب اليساريين، الذي لاذ بسلطة الاستبداد باسم الخوف من الإسلاميين، وانهار خطاب العلمانيين والليبراليين، بعد أن تحوّل إلى مسخٍ يدعو إلى احترام حقوق الإنسان على الطريقة العسكرية. وانهار خطاب الإسلاميين بتشرذمه وشيطنته من قِبَل الانقلابيين. وحين ينهار خطابا السلطة والمعارضة في بلد، وحين يتفكّك النصّ الذي يوحّد المجتمع، تصبح كلّ الحكايات بلا أطر. ويتحوّل حلم الصعلوكين، في أن يعيشا زمن التحوّلات التاريخيّة العاصفة، إلى كابوس. فيصرخ أحدهما، سأترك حیاتي منحوتة في غرفة امتلكتني، سأترك الأشیاء، سأضع ألف قفلٍ على الباب، سأترك ھرمي مغلقًا قد یفتح یومًا، لن أعود إلى أشیائي ولن تعود أشیائي إلي، حنطتھا وعشت بین الأموات، سأترك الأموات في غرفتي. في عراء القمع والألم، وفي زمن انهيار القيَم، ووسط مدٍّ عنصريّ وتعصّب، ونموّ لفاشيّاتٍ متنوّعة تحاول وأد ثقافة الإنسان في عالمنا العربي، كان لابد من الرحيل. كان اختیاره إلى بلاد الضباب، التي ذكر لي أنه خبرھا، ھو ذاھب ولم أتمسك بالأسباب ولم استفسر، فللصعالیك عادة الترحال.
في لحظة المفارقة، يقول الصعلوك لزميله: أنا لست خائنًا، أنا لست ھاربًا، أنا لا أستطیع تحمل سماع ورؤیة من یھلّل للفرعون، أنا لا أستطیع أن أرى غیر نظرة البراءة في عیون الأطفال، أنا مھاجرٌ غریب من وطن صرت فیه غریبًا، یوم رأیت الطفل ابن المستشار بنظرة غریبة في عینيه، نظرة نُزعت منھا البراءة، صرت غریبًا في وطني، یوم أجبرت فوھةُ بندقیة، جیتاري على الاستلقاء مقھورًا محدّد الإقامة في غرفة فندق، وحیدًا تشتاق أوتاره لأنشودة حریة، ولرؤیة أمواج البحر تھتز.
لا تيأس أيها الصعلوك النبيل، إنهم يعتقدون أنهم قادرون على تمزيق الكلمات كما يمزقون أشلاء ضحاياهم، لكنهم ينسون ويريدوننا أن ننسى، أن الكلمات تستطيع أن تنهض من ركامها وتستعيد معانيها، وأن الدم الذي يريدون به محو الكلمات، مؤهلٌ لأن يصنع كلمات جديدة قد تنام الآن تحت وطأة الخوف، لكنها لا تموت.
وفي العلاقة بين الصمت والكلام، نكتشف أنّنا نواجه احتمالات أن نكتب بلا إطار يلمّ أطراف النص، ويأخذه إلى معنى. هل هذا ممكن؟ وبمقدار ما يتمّ تهميش الألم، والاعتياد عليه، بمقدار ما يصير الموضوع خارج الموضوع. هل يستطيع الألم أن يشكّل إطار حكاياتنا؟ أشعر اليوم بأنّ واقعنا تجاوز الأمل ومعادلة التفاؤل والتشاؤم؛ لأنّنا نعيش مرحلة ما بعد اليأس.
وفي النھایة سنكتشف أن من صنع النصر دائمًا ھو الجندي المجھول، ولیس من نراه بنیاشین النجاه من الحرب لبقائه في التحصینات، سنعرف أن الحضارة صُنعت بید من لم یطلب الجاه لنفسه، بل من طلب الإنسانیة للجمیع. سنعرف أن الصعالیك النبیلة نزلت إلى الجحیم باختیارھا، وحاربت الغیلان بكلمتھا في قصص أسطوریة لا تنتهي.
وفي جحیم جمھوریات الموز ھناك الكثیر من الصعالیك لم نعرفه، یحترق لیبني لنا جسرًا بین أخلاقنا ومستقبلنا. الاسم لا یھم والمھنة لا تھم. الاسم صعلوكٌ، والمھنةُ أیضًا صُعلوك، والنبالة ھدف یتواءم مع الوسیلة التي لا تتخلى عن أخلاقیاتھا، وھكذا كان ولا یزال الصعالیكُ النبلاء، وعند الاقتراب منھم، لا یسعنا سوى محاولة تذكر حكاویھم الشفھیة، لتبقى حافظةً لھویتنا لحین عودتنا إلى العالم، بعد التخلص من الشمولیة التي صنعت من بلادنا أرخبیلًا خرموبولیسيًا لابد عن إنقاذه.
لقد وصلت فضيحة أنظمة الاستبداد إلى نهاياتها الإجراميّة المخيفة، محوّلةً احتمالات النهضة التي رفعت شعارات الخبز والحرّية والديمقراطيّة، إلى كابوسٍ من الثورة المضادّة التي تحاول إعادة تأسيس الاستبداد والطائفيّة والتمزّق الاجتماعي، وإطفاء الضوء في العيون. فماذا نحن فاعلون؟ زمننا المثاليّ المفترض يتكشّف عن صعوباته الكبرى، إنّه زمنٌ للرعب، لكن عبثيّة صراعاته وقَمعه المتوحّش، ليست علاجًا ضدّ الرعب، بل قد تكون سببًا إضافيًّا لفرض الصمت، بصفته اللغة الأخيرة التي لا تزال قادرة على التقاط المعاني. فهل هذه اللحظة التي نعيشها، هي صمت ما قبل الكلام، أم صمتٌ يدوم بلا كلام؟
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست