أرض الموت
بعدما بث شريط الموت الذي أطلعنا على ضحايا غارات الغاز السام التي استهدفت بلدة خان شيخون في ريف إدلب، أزعم أن أي عربي شاهده، وعرف النوم في تلك الليلة، لابد أن يكون قد أصيب بفساد الضمير وتشوهه.
أدري أن سوريا أصبحت بلاد الموت، واستعراض فنون الإبادة، التي يستعرض حلقاتها كل يوم قتلة هواة ينتمون إلى داعش وأخواتها، وقتلة محترفون، ويمارسها النظام البعثى منذ تمكن من السلطة، إلا أنه لم يتح لنا أن نرى الضحايا، وهم يتعذبون؛ فتتلوى أجسادهم العارية، ونسمع حشرجاتهم، وهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة. وهو ما فعله الشريط الفاجع الذي رأيته مع غيري مساء يوم الثلاثاء، وظلت مشاهده المروعة تلاحقني وأصوات الحشرات الواهنة تدوي في أذني طوال الليل. هكذا وصف الكاتب فهمي هويدى تلك الأحداث البشعة التي حدثت في سوريا. والتى أصابتنا جميعا بالصدمة والحزن والهم. وأطلقت داخلنا أسئلة حائرة كثيرة، لماذا كل هذه البشاعة والشر؟ لماذا خنق البراءة والطهر؟
من خلال هذه الأسطر أجتهد أن أحول الهم إلى اهتمام، والحزن إلى تفكير، والعجز إلى عمل، والكره إلى حب، وعدل وإنصاف. هذه الأسطر هي محاولة للنظر بعمق، بعيدًا عن التسطيح الذي يولده رد الفعل السريع والمتابعة للأحداث والأخبار اليومية بدون التحليل والنقد. أحاول البحث والتفكير في الأسباب والدوافع.
قضية الأمس واليوم
إن قضية أصل الإنسان هي حجر الزاوية لكل الأفكار التي تسود العالم، وتحكم تصرفات البشر، فأية مناقشة تدور حول: كيف ينبغي أن يحيا ويتصرف الإنسان، تأخذنا إلى الوراء، حيث مسألة أصل الإنسان، أي أنه، بدلًا من أن يسأل السؤال المعرفي بطريقة مباشرة جافة مجردة، يحوله إلى إشكالية وجودية متعينة، يمكن للإنسان العادي أن يدركها بطريقة مباشرة. ماذا قال المفكرون الغربيون عن أصل الإنسان؟ لقد تناولوا عددًا من الآراء من خلال مجموعة من الصور المجازية الآتية:
– اسبينوزا: يرى أن الإنسان يشبه قطعة حجر قذفتها يد قوية، وبينما تدور تلك الحجرة المسكينة في الفضاء، تظن أنها تتحرك بكامل إرادتها.
– آدم سميث: يقول إن الإنسان يعيش في عالم تنظمه اليد الخفية، وتحكمه قوانين العرض والطلب الآلية.
– نيوتن: يرى أن العالم كله ـ بما فيه الإنسان ـ يشبة آلة دقيقة. ساعة تدور على نفس الوتيرة دون تدخل إلهى أو إنساني. إنه يقدم نموذجًا آليًا تمامًا تتحد فيه الذات وإرادتها في الحركة الآلية للكون.
وإذا كان نيوتن قد جعل من العالم آلة وساعة، والإله هو صانع الساعات الماهر، ففي عالم دارون اختفت مقدمة السماء تمامًا، فأصول الإنسان – حسب تصوره – تعود للزواحف والقردة العليا. وإن الحياة مثل الغابة تصل إلى حالة التوازن من خلال اليد الخفية للصراع من أجل البقاء، والبقاء للأصلح والأقوى.
أما الفيلسوف نيتشة الذي حول الداروينية من نظرية علمية بيولوجية إلى فلسفة وفكر موثر في الحضارة الغربية كان يقول: إن الذات هي إحدى الحيل التي يحاول بها الضعفاء أن يخنقوا براءة القوة وتلقائيتها. إنها تفرض مثلًا وهمية، وهي في واقع الأمر مجرد قناع أو توليفة أيدلوجية ليس لها وجود حقيقى. ثم تجلت الاستنارة المظلمة بأنجب أبنائها فرويد، الذي أثبت -حسب تصوره – أن الغابة تقع في واقع الأمر داخل الإنسان، وأن الذئب هو ذلك اللاوعي المظلم، واللبيدو (الرغبة الجنسية) المتفجر. إذن هذا هو خلاصة عصر الحداثة والاستنارة الغربية، أو الحضارة الغربية التي أطلق عليها المفكر الراحل د.عبد الوهاب المسيري (الاستنارة المظلمة) لقد جرى فيها تفكيك الإنسان وهدمه ورده إلى ما هو دونه.
من أفران غاز هتلر إلى قنابل غاز بشار
وهنا يتضح دور الحداثة الغربية وعلاقتها الوطيدة بظهور الإبادة الجماعية كحل نهائي لمشكلاتها المتفاقمة، وكأداة ممكنة لبناء الفردوس الأرضي الذي يتمثل في الوصول إلى أقصى درجات التقدم المادي العلماني المنفصل عن القيمة الإنسانية والمرجعية الأخلاقية. تمامًا مثلما فعل هتلر، وهو أحد أبطال تلك الحضارة وصقورها الأقوياء فقد كان يرى بأفضلية الجنس الآري وتميزه وفضله على غيره من الأجناس، وأن الشعب الجرماني هو أعظم الشعوب قاطبة، وكان يرى ضرورة قتل اليهود والشيوعيين والعجزة والمرضى والمعوقين والمجرمين والأقليات العرقية.
والأمر ذاته هو الذي دفع جيوش أوروبا إلى الخروج إلى جميع أنحاء العالم، وهي تحمل أسلحة الفتك والبطش والإبادة حتى تحول العالم بأسره إلى مادة استعمالية يتم توظيفها لصالح الإنسان الغربي (السوبرمان المطلق)، وبناء الفردوس الأرضي الأوروبي، ومن ثم لم يتعامل الإنسان الغربي مع شعوب آسيا وإفريقيا باعتبارها شعوبا لها تاريخ إنساني وحضاري وثقافي، ولكن باعتبارها مخلوقات دون البشر (sub-men) تعيش في فراغ جغرافي أو مكـان بلا زمان، أوجغرافيا بلا تاريخ. وهذا ما فعلته جيوش أوروبا عندما تناست الدور العربي والإسلامي في بناء الحضارة الإنسانية على مدار القرون الماضية، حيث تعامت مع العالم العربي على أنه مجرد مصدر مهم للمواد الخام، ومجال خصب للاستثمارات، وسوق عظيمة للسلع التي تنتجها الدول الغربية، كما قامت الجيوش بإبادة الخمير الحمر سكان الأمريكتين الأصليين، وأيضا استعباد الإنسان الإفريقى حيث قامت بنقل سكان إفريقيا إلى الأمريكتين لتحويلهم إلى مواد استعمالية رخيصة، ناهيك عن نقل كثير من العناصر المقاتلة من آسيا وإفريقيا وتحويلهم إلى جنود مرتزقة مثل الهنود وسكان المغرب العربي. إن القانون الأمريكى الذي ظل سارى المفعول حتى عام 1865م، وكان ينص على حق الأمريكى الأبيض في الحصول على مكافأة مجزية إذا قدم لأي مخفر شرطة بالولايات المتحدة فروة رأس هندى أحمر! هذه هى حضارتهم الغربية المزعومة.
وكما خرجت النازية من عباءة الاستنارة المادية المظلمة خرجت الصهيونية من ذات العباءة ووجدت فى القيم الغربية المحضن الخصب لفكرها الهدام حيث شعب الله المختار والحوسلة (تحويل البشر الى وسيلة للمنفعة والربح) والقتل والاستنزاف لبقية الأمم.
الحضارة الزائفة و تفكيك الانسان
هكذا يتم تفكيك الإنسان تمامًا، ويتحقق الوعد الحداثى بأن الإنسان سيعيش بلا قيم، ولن يعبد أي شيء حتى نفسه، وأن ينتزع القداسة عن كل شيء حتى نفسه وروحه. وإذا كان القرن التاسع عشر قد شهد تطور مفهوم المادية والدارونية والفلسفة النتشوية، فإن القرن العشرين شهد تطور العلمانية كإطار عرفي حداثى للحضارة الغربية، والعلمانية هنا شاملة، بمعنى أنها ليست فصلًا للدين عن الدولة، بل فصل لكل القيم عن مجمل حياة الإنسان، ونزع للقداسة عنه بحيث يتحول العالم إلى مادة استعمالية يوظفها القوي لحسابه، وهو ما يؤدي إلى الحداثة الداروينية، وتحويل العالم إلى حلبة صراع، فهي علمانية تنكر إنسانية الإنسان؛ ليصير الهدف من وجود الإنسان في الأرض هو زيادة معرفة قوانين الحركة والطبيعة البشرية والهيمنة عليها من خلال التقدم المستمر الذي لا ينتهي، ومن خلال تَراكُم المعرفة، وسد كل الثغرات وقمع الآخر إلى أن يخضع كل شيء (الإنسان والطبيعة) لحكم العقل وقانون الأرقام (وهو قانون يستمد مشروعيته من المعارف العلمية المادية فقط)، بحيث تَحوَّل الواقع بأسره إلى جزء عضوي متكامل. تنتظمه شبكة المصالح الاقتصادية والعلاقات المادية، فيخضع الواقع للواحدية المادية ويصبح أشبه ما يكون بالسوق والمصنع.
لماذا كل هذه البشاعة
أين الإنسانية؟ وأين الرحمة؟ كيف يقوم أحدهم بقتل الأطفال الأبرياء؟ يقول على عزت بيجوفتش: إن الإنسان في الحضارة الغربية، ليس شيئًا يذكر، ولا هو خلق شيئًا، بل على العكس، إنه مجرد نتاج حقائق معينة، وبالتالي فإن وجود الإنسان عبثي، وحضوره مقيد بالتطور المستمر البيولوجي المتنافي مع وجود أي إله، وهنا كل شيء محلل، والأخلاق لا جدوى منها فالرحمة ليست سوى حيلة الفقراء لجذب اهتمام الأغنياء حسب نيتشه، والإنسان ذئب لأخيه الإنسان حسب هوبز، والغاية تبرر الوسيلة لدى ميكافيلي، والكون ليس سوى ساعة لدة نيوتن، وتطور بيولوجي لدى داروين.
إن المادية تعد الفرد ليخرج نافعًا للمجموعة ونافيًا ذاته وروحه، فلا وجود للعاطفة من غير حب الحاكم والزواج يغدو مفسدة والزنا حلال فالمشاعر الإنسانية الروحية، ليست سوى أعشاب برجوازية طفيلية لا محل لها في الأنظمة الشمولية التي تنفي الفرد بجانبه الروحي، ويبقى مجرد آلة ونظام معد لخدمة الجماعة.
وذهب هوبز وميكافيللى إلى أن حالة الطبيعة هي حالة من حرب الجميع ضد الجميع، فالإنسان ذئب لأخيه الإنسان والتعاقد الاجتماعي بين البشر، لا بسبب فطرة خيرة فيهم، ولكن من فرط خوفهم وبسبب حقب البقاء، فينصبون الدولة التنين حاكمًا لهم؛ حتى يمكنهم أن يحققوا قدرًا ولو قليلًا من الطمأنينة.
قمة العبثية
وتصل العبثية إلى قمتها في صناعة السلاح لقد أنتج العالم المتقدم أسلحة تكفي لتدمير الكرة الأرضية مرات عديدة، من المفارقات الغريبة أن قمة إنتاج تلك الحضارة هو إنتاج السلاح وآلات القتل. أي أن أهم أشكال الإنتاج هو إنتاج أشكال الدمار، وهل أفران الغاز الهتلرية وقنابل النابالم واليورانيم المخضب والقنابل العنقودية، وغاز السارين الذي قتل بها أطفال دير شيخون إلا نتاج تلك الحضارة التي تجيد القتل والإبادة.
وحينما سئل فاتسلاف هافل (رئيس جمهورية التشيك) عن الأسباب التي أدت إلى هذا الوضع، أجاب قائلًا: هذا الوضع له علاقة بأننا نعيش في أول حضارة ملحدة في التاريخ. فلم يعد الناس يحترمون القيم العليا التي تمثل مرتبة أعلى منهم. شيئًا مفعمًا بالأسرار. هنا لا أتحدث بالضرورة عن إله شخصي، إننى أشير إلى أي شيء مطلق ومتجاوز. هذه الاعتبارات الأساسية كانت تمثل دعامة للناس وفقًا لهم، ولكنها فقدت الآن. وتكمن المفارقة أننا بفقدنا إياها نفقد سيطرتنا على المدنية التي أصبحت تسيير دون تحكم من جانبنا. فحينما أعلنت الإنسانية أنها الحاكم الأعلى للعالم في هذه اللحظة نفسها، بدأ العالم يفقد بعده الإنسانى.
هنا لا يمكن أن ننخدع بالإدانات الإسرائيلية للمجزرة، فالمتكلم جزار محترف، يلبس ثوب الراهب المسكين، ويدين جزارًا آخر وهو تنافس بين متعهدى القتل والمذابح وقاتلي الأطفال والأبرياء. وإذا كنا سمعنا نصًا أدبيًا يحكى عن أن الثعلب لبس يومًا ثياب الواعظين، فها نحن نرى ذلك اليوم، ونطالع وجه الثعلب، وهو يتباكى عن روح بريئة تمنى لو كان هو قاتلها.
ماذا يمكننا أن نفعل؟
هنا يجب أن نتوقف ونخاطب إنسانيتنا ونخاطب كل إنسان. نخاطب الإنسان الإنسان الذي يحتفظ بمنظومته القيمية التي تجعله إنسانًا متعدد الأبعاد. له قيمة إنسانية وروحية وأخلاقية يدرك واقعه المادي، ويتعامل معه، ولا يهمل واقعه الإنسانى والروحي.
أن نموذج الفكر الإنسانى المستنير الحق هو الذى يتبنى العلم والتكنولوجيا والمعرفة ولا يضرب بالقيم والغائية عرض الحائط. إنها حضارة مستنيرة استنارة حقيقية تحيى العقل، ولا تميت القلب. تنمى الوجود المادى والروحى وتعيش دون إنكار الذات. إنها حضارة الإنسان الإنسان – والإنسانية المشتركة التي تتعالى فوق فروق وخلافات اللون والجنس والأفكار.
إن هذه الأسطر تخاطب الإنسان في كل زمان ومكان، تخاطب ثقتنا في أنفسنا ومقدرتنا على تجاوز أنفسنا وأفكارنا لنكون أكثر إنسانية، و رحمة، وعدلًا، واهتمامًا بالآخرين، وإصلاحًا لعالمنا والتحول إلى الأفضل. أن نكون أكثر ثقة، إننا بشر حقيقيون نتجاوز غرورنا وصلفنا ونعتز بإنسانيتنا وأرواحنا وقدراتنا وتفاؤلنا بمستقبل أفضل. ذلك الإحساس الذي يولد لدينا حالة نفسية وعقلية ومقدرة على مزيد من العمل من أجل إقامة العدل في الأرض، وخلق عالم يليق بنا كبشر (أو هكذا أرى القضية).
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست