كثيرًا ما يشغل العقل سؤال عن شكل تلك الدولة التي تنبض في عقولنا من حين لآخر، وطالما أسرجنا لعقولنا لجام أحلامها لترسم في مخيلاتنا ملامح ذلك المجتمع العادل، فحلم المدينة الفاضلة ليس خاصًا بأفلاطون، بل كل إنسان على وجه الأرض.
ولكن تبقى إشكالية عدم وجود تنظير أو اجتهاد يتحدد به شكل تلك الدولة المستقبلية، ونحن هنا لا نتحدث في أوهام أو خيالات، بل إن رسم تلك المعالم وفتح أبواب الاجتهاد في مآلات المستقبل الإسلامي، لهو ركن أساس في طريق الوصول لمعادلة الدولة الناجحة.
ولعل التجربة الأخيرة في عالمنا العربي والتي أطلق عليها كثيرون في بداية انطلاقها مصطلح – الربيع الإسلامي- وهي التي وصلت إلى الفشل الذريع بسقوط كل المكتسبات الثورية التي تمثلت في برلمانات وحكومات ورؤساء محسوبين على جماعات لم توجد إلا من أجل المشروع الإسلامي، وعول عليهم كثيرون للوصول بهم إلى حلم الدولة الإسلامية، لعله كان من أسباب فشلها ذلك أنها لم تستند في صراعها الأخير إلى نظرية محدثة أو اجتهادات جديدة حول إشكاليات التعامل مع النظم غير الإسلامية القائمة، بل اتكأت على إرث تجارب وصراعات مضى عليها الزمن ولم تعد تصلح كسياسة مستقبلية تحيل حلم الدولة إلى واقع ملموس.
إن تراجع الثورات وتمكن الأنظمة الفاسدة من العودة لمواقعها القيادية وشرعنتها لوجودها من جديد لم ينتج بسبب ضعف الثورات أو عدم قدرة الشعوب على إحداث التغيير، بل جاء نتيجة لعملية الدمج التي أصرت عليها القيادات الثورية المفتقرة للرؤية السليمة لعملية الإصلاح.
فلا يمكن بحال من الأحوال أن نغرس بذرة الإصلاح وسط كم الفساد المتجذر في دول الربيع العربي، بل إن الطريق الصحيح الذي ثبت أنه لا مفر منه هو عملية جذر واستئصال للنظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية البالية، على الرغم مما سيستتبع عملية الاستئصال هذه من مشاكل وتوابع خطيرة.
وقد أصل الدكتور وائل حلاق في كتابه الدولة المستحيلة لاستحالة الدمج بين النظم الإسلامية والنظم الحداثية، ذلك أن النظم اللاإسلامية لا يمكن أن يقوم في كنفها نظام إسلامي؛ نظرًا للاختلاف الجذري في أساس كل نموذج منهم سواء النموذج الإسلامي القائم على منظومة أخلاقية تمثل ركيزته الأساسية وما دونها فروع، أو النموذج الحداثي القائم على المادية البحتة والذي هو ركيزة تلك المجتمعات الأمر الذي ينذر بوجود خلافات صدامية بين النموذجين تدفع بأي مشروع إسلامي إلى الفشل في حال فكر في عملية الدمج.
وقد يكون لدى أبناء التيار الإسلامي رؤية لشكل تلك الدولة الإسلامية الناجحة متمثلة في التجربة التركية، ويجدر بهؤلاء الإسلاميين أن يعيدوا التفكير في هذه الرؤية المغلوطة، فمشروع الدولة التركية قائم على أسس أقرب للعلمانية وأفكار أشد ارتباطًا بمفهوم الدولة الحداثية.
ثم من يقر أن تحقيق الرفاه والثراء اللا محدود للمجتمع هو جزء من الفكر الإسلامي.
إن تحقيق الحياة الكريمة التي لا تدفع بصاحبها إلى التمسك بالدنيا والإقبال عليها هو هدف في أي مشروع إسلامي.
ثم أتساءل هل النموذج التركي يحقق هذا؟ بالطبع لا، فهو على خطى النظم الرأسمالية الحداثية التي تصنع نوعًا جديدًا من عبودية المادة وتزيد من ارتباط الشعوب بها، وتنحي بهم عن الجوانب الأخلاقية وتؤهل المجتمع لتقديم الرفاهية الاقتصادية والتقدم المادي على ما عداه، ثم إن هناك إشكالية أخرى في التجربة التركية متمثلة في عدم قدرة المجتمعات المادية المتلبسة بثياب إسلامية لأن تحقق أحد فروض الدين الإسلامي وهو الجهاد الذي لن يقوم به أفراد تلك المجتمعات حتى تهون الدنيا في قلوبهم.
إن المجتمع التركي على ما يستنشقه من نسمات القيم الإسلامية في الوقت الحالي فهو لن يؤدي به إلى مجتمع إسلامي يتحقق به نظام دولة تقوم على الشريعة، بل إن الذين هم على رأس الدولة التركية إن كانت نيتهم بالفعل متوجهة لإنشاء دولة إسلامية فهم على موعد مع تجربة إسلاميي مصر وتونس واليمن وسوريا وليبيا والجزائر، ذلك أنها نفس الأبجديات التي استخدمت لتحقيق ذلك التغيير.
وتبقى اشكالية التنظير والاجتهاد عقبة أمام التنظيمات الإسلامية على اختلاف مشاربها الفكرية والعقدية، ذلك أن اجتهادهم متوقف عند اشكاليات التغيير المجتمعى ولم يتعدى ذلك ليضع حلولا أوسياسة للمستقبل الإسلامى في معركته ضد النظم الغير إسلامية، أيضا لا يمكن بحال أن تقوم دولة إسلامية في ظل نظم ديموقراطية ذلك أن تلك النظم تحمل في مبادئ قيامها وأسس استمراريتها ونموها ما يتعارض مع الجوانب القيمية والأخلاقية في الإسلام وان اتفقتا في نقاط قليلة، لذا فأن الاجتهاد من أجل البناء النظرى للنظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية الإسلامية في ظل واقع جديد يختلف في اشكالياته عن واقع ما قبل سقوط الدولة العثمانية لهو أمر أساس يبنى عليه مدى نجاح الإسلاميين في العودة إلى صدارة النظام العالمى من جديد.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست