في معظم الأشعار الإنكليزية التي قرأتها، لا أجد في نفسي ميلًا نحو المعنى الإنكليزي مما يحدد حلاوة القصيدة وعمقها إلا بعد ترجمتها للعربية في نص شعري مقارب!
ليس بسبب عدم فهمي للقصيدة بالإنكليزية، ولكن لرغبتي الملحة لسّبرِ غور احساس وعاطفة ذلك الشاعر حينما كتب ما كتب! إذ المعني يثبتُ في داخلي عربيًا! وقياسا على الأمر فسنجد أن الفرنسيَ اللسان سيحب أن يحول قصائد مفضلية من شعراء الإنكليز مثلًا إلى الفرنسية كيما يعايش الإحساس!
تلك الازدواجية النفسّانية سببها إزدواج اللغة لدى المُتلقيين ممن يعرفون أكثر من لغة، فنجد أن أقربهن، أي مما يعرف من لغات، هي تلك التي يحول إليها، وبشكل لا إرداي، دوما تلك المعاني التي يود أن يعاينها قلبه ويحفظها وجدانه، ومن لا ترضيه من تلك المعاني بعدما سحقها لطينته الأولية (لغته الأم= دينامكية التفكيرالأولى)، فهي عنده سواء .. يرفضها على صيغتها التي جاءت بها أو يبقى منها على الحياد!
في حالات ضيقة للغاية تكون دينامكية التفكير الأولى من غير لغة المرء الأم! كمثال، طفل عربي تركه أبواه من عمر صفر في عهدة تربية إنكليزية لم تخالطها أية عربية، ساعتها ستكون ديناميكية تفكيره الأولى هي الإنكليزية حتمًا، وليست دين أباءه = العربية!
ولو أمعنا التفكير بالأمر حينما نضع في اعتبارنا حفظة القرآن الكريم ممن لا يعرفون العربية بالأساس، والذين، في الغالب، لا يعرفون معاني كلمات ما يحفظون من آيات هي الحالة الوحيدة المُعجزة التي لا يشكل فيها الإرجاع اللفظي = ديناميكية التفكير الأولى، لفهم المعاني أي عنصر فاعل ولا يؤثر على دقة الحفظ! بل لايؤثر / بشكل مُحير/ في التلقي القّلبي والتأثر/الاستشعار الوجداني بالمحفوظ! فنجد هنديًا – مثلًا – لا يفقه من العربية إلا ما يحفظه من القرآن وتراه يرتجف وجلًا ودمعًا عند التلاوة!
وهو المستحيل حدوثه فيما عداه من نص، كأن تحفظ مثلًا نصًا قرأته بالإنكليزية (حتى لو كنت إنكليزيًا) ولم تفهمه، ناهيك عن التأثر به!
والعجيب أنه كلما زادت سرعتك وقدرتك على الإرجاع اللفظي في ديناميكية لا تستغرق ثوان من لغة أجنبية للغتك الأم، كلما زاد استمتاعك باللغة بل زادت قدرتك على إرجاع اللفظ لمعناه النفسّاني من منبعه الأساس الأجنبي لدرجة تُصّير اللغة الأجنبية لغة أم أيضًا (ربما خالة!)
رآبسودية اللغة (الأفتتان المخلوط بالحزن) أو أكستاسية اللغة (تلاقي بحران في ممر ضيق مما أنتج عنه سبلاشة = فيوض سعيدة وحزينة في ذات الوقت = وهي أيضًا دلالة نشوة).
كخاتمة، لم أجد ما يُعبر عن سعادتي كمفتون أزلي بلغة النص إلا ثلاث كلمات. اثنتان منهما قابلتان للنشر! والسعادة، كمنظور نسبي جدًا، ليس له ثمة قواعد مُسببة، وهي في أبسط تفسيراتها النفساوية، ضياعٌ طويل، ثم فجأة التقاء، وتبصر على زمن فاتَ في حزن / وجد ذلك الضياع.
والترجمة، في رأيي المتواضع ، هي التحويل من منشأ لغوي له عرفانيته وفلسفته الوجدانية وإحساسه النفسي إلى منشأ لغوي آخر، أنت حينما تترجم من الإنكليزية إلى العربية، لا تأتي بالعربية، أن تأتي بخلقٍ جديد. وكن ربًا صاحب فن .. وإلا فـالمسخ .. هو اسم ما تأتي به يُمناك!
أما أولئك المترجمون الذين جعلوا مهمتهم في الحياة حرماننا رآبسودية / أكستاسية اللغة، وحملوا على عاتقهم مهمة رص قوالب الترجمة الحرفية كـعامل البناء المسكين يحمل القصعة من تحت لفوق، بلا فن، لأن جلده المُحترق تحت سعير الشمس، لم يلمس فنًا، ولن يلد فنًا، أقترح أن يصبروا لبعض الوقت، ريثما يخترعون آلة زمن؛ ليتم إرسالهم إلى مقرات تشفير التلغرام بالعواصم الكبرى المتناحرة بالحرب العالمية الثانية، فليس ثمة فارق بين رص القوالب، وتلغرامات الحرب، طوربيد في السكة ، «قنبلة ع دماغكم»، وهكذا، كوميديا سوداء!
والعربية يا سادة لغة بلاغ (وهناك فوارق لغوية بين بلاغ / تبليغ / بلاغة)، باستطاعة مفرداتها – حرفيًا – ملء حوض البحر الأبيض المتوسط (إذا ما كتبنا كل كلمة عربية معروفة على مركب ورقي، وقمنا بتعويمه!)، ولما كانت العربية لُغة بلاغ، وجب عليك أيها المترجم فرض بلاغك على القابع من نص أجنبي تحت رحمتك! وشتان بين فرض بلاغك وبين فرض رأيك الشخصي!
هناك خلط عرفاني، دومًا ما يُعانيه النص المترجم = الخلق الجديد، ألا وهو الـ Perception = الإدراك الفردي.
ربما ليس باستطاعتي كمترجم الوصول إلى نسبة 100% من فهم ما كان يرمي إليه الكاتب الأصلي في نصه (هذا إذا ما كان على قيد الحياة، وباستطاعتي مراسلته والاستفسار والاستزادة، فما بالك بالمتوفي منهم!) لأن – صدق أو لا تصدق – الكتابة أصلًا مراحل إدراك فردي، قد لا يُدركها الكاتب نفسه = أي يكتب أحدهم سطرًا، وهو يقصد معنى ما، ثم يخرج السطر بمعنى مغاير تمامًا – لكل من الكاتب، والقارئ! وهي المعركة الأصيلة للكلاميين … النص يستحيل أن يكون مفهومًا بإدراك فردي، وأولها النصوص الربانية، لأنها ذات إدراكات جماعية = ومن هنا جاء الخلاف على ماهية الرب!
وكتلخيص، على المترجم أن يستشعر أهمية وجود نوعين من الزيادة وحتمية توظيفهما في النص المترجم = الخلق الجديد وهما:
1- الزيادة الأفقية = وهي ما أسميتها قموسة = أي إضافة تلك المفردات الأجنبية في خليط من هيكلها المتحول إلى الترجمة المباشرة لها + الإدراك المعرفي عنها في اللغة المترجم إليها.
2- والزيادة العمودية = استخدامه للواسع المترامي الأطراف من مفردات اللغة المترجم إليها، تمامًا، كجعبة سهام.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست