حين تُصبح في المرحلة الابتدائية، سيتحتمُ عليك رسم الدائرة، سيطلب منك مُعلم الرياضيات أن تشتري البرجل وتقوم بتثبيت سنهِ في منتصف الورقة، وتقوم باللف بسرعة وثبات لتخرج لك في النهاية الدائرة بشكلٍ سليم.
ستبدأ بعدها في اللعب والتجربة عدة مرات، ستلهو بالبرجل وتصنع مزيدًا من الدوائر مختلفة القُطر، وستدخل مزيدًا من الدوائر على بعضها، حتى تمتلئ مساحة الورقة، هذا بالتأكيد ما فعلت في الطفولة.
بعد وقتٍ قصير سيتسلل إليك الملل، من تلك اللُعبة، ستكبر وتنتهي من سنوات الدراسة الشاقة، لتكتشف أن الدائرة مرسومة ربما من قبل أن تشتري البرجل، ستكتشف أنك كنت ساذجًا، ورغم ذلك ما تزال مفتونًا بالدائرة التي تصنعها بسرعةٍ وخفة، تتخيل أنك ساحر، أو عازف ماهر أو حتى راقص محترف يصنع مزيدًا من الدوائر في خفةٍ ورشاقة، لكنك ستتأكد بمرور الوقت من الحقائق الثابتة أن الدوائر مغلقة بقوة «الرصاص»، وأن كل من بداخلها سيظل بالداخل إلى الأبد، سيظل الرسّام يتحكم في كل شيء، وسيظل الباقي لا شيء وبلا شيء، صفرًا في الرياضيات، جزيرة منعزلة في الجغرافيا، سجينًا بحكم التاريخ، ستتذكر تلك الدائرة وأنت تُفكر في أوضاع تلك البلاد، وأنت تفكر في مصر بالتحديد، أكبر مثال لفكرة الدائرة.
شعب يحب الدائرة التي يركلها اللاعبون أكثر من أي شيء آخر، تحب سلطته الدائرة السحرية التي لا يراها أحد «عجلة الإنتاج».
تُضيع حكومته مزيدًا من الوقت في رسم الدوائر الانتخابية، شعب نصفه ما يزال منتظرًا على «الدائري»، يحب جملة على الباغي تدور الدوائر، لكن أحدًا لن يجيبك متى وكيف وأين ستدور تلك الدوائر!
دائمًا ما يحب الدوائر المغلقة ويقدسها، لا ينفتح على العالم، أغلبه يعلن صراحة أنه لا يحب «اللف والدوران»، لكنّه يعشق الصواني بدءًا من صواني الطعام الشهي والحلويات مرورًا بدروس الصبر في صواني الميادين والطرق الرئيسية.
هكذا المجتمع، في الشركات والهيئات والمصالح الحكومية، يشكلون الدوائر ويغلقونها ويقذفون بالمخالف خارجها وينكلون به، مع المزيد من الدوائر في الدين والأخلاق والثقافة والفن…
وفي كل دائرة عشرات الدوائر وعشرات المنبوذين بحكم أرباع الموهوبين في الرسم.
في السياسة ستجد ثلاث دوائر: أولها السلطة وأبواقها ودراويشها ومريديها، ودائرة المعارضة من ثوار وأحزاب، وأخيرًا دائرة الشعب. وفي كل دائرة متناحرون بالداخل والخارج، وفي كل دائرة مشتاقون للخروج ومشتاقون للدخول.
ويظل هناك دائرتان متناحرتان على الثالثة بغرض الهيمنة على الأُخرى، تناحر يغطيه الجهل والجشع، والثالثة مطحونة بألف دائرة أخرى ولن تفيق.
والحل لتلك المعضلة هو فك تلك الدوائر، وإعادة تشكيلها لتصبح كتلةً واحدة، الحل في نسف الفكرة من الأساس وإلى الأبد، لا نريد كهنوت ولا نريد مزيدًا من الرسامين معدومي المواهب والضمير، لا نريد مانحي الصكوك باسم الدين والوطن والأخلاق…
لا نريد دوائر حتى لو تم حذف الدوائر من المناهج ومصادرة كل البراجل وتفريغ الأقلام والأسلحة من الرصاص، حتى ولو لفترة يتنفس فيها الكل هواءً نقيًا بعيدًا عن عفن الدوائر المغلقة.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست
علامات
دوائر