تستفحل الأزمة المعيشية في لبنان يوميًا، وباتت تحدّي وجودي للعديد من شرائح المجتمع اللبناني التي تعيش كل لحظة بلحظتها عسى أن تحمل انفراجات تُنهي هذا الكابوس.

هذه الأزمة التي يعيشها لبنان بدأت ملامحها في العقد الأخير، وكانت تظاهرات 17 أكتوبر (تشرين الأوّل) 2019 القشّة التي قصمت ظهر البعير، حيث عرّت فيها الواقع السياسي في البلد وأظهرت كذبة الرخاء والرفاهية والبحبوبة التي رُوّج لها كثيرًا.

فواحدة من المآسي الأخلاقية التي خلقتها الطبقة السياسية في لبنان هي إخفاؤها حجم الأزمة الإقتصادية في البلد، خصوصًا في آخر 10 سنوات، والتعاطي معها بخِفّة ولا مبالاة. وهذا الأداء السياسي لا يعكس نوايا مؤامرة لدى مسؤولي لبنان، بل يعكس فشل وعجز وكسل.

المؤامرة عادةً يصنعها الأذكياء ويُحيك خيوطها العباقرة. في لبنان الوضع مختلف كليًّا، إذ أن هناك مُشكلة في نوعية المسؤولين والزعماء الذين يتحكمون بالبلاد ودوائر المستشارين التي تُحيط بقصور الحكم. وهم عبارة عن أشخاص وُظّفوا تِبعًا لمعايير الولاء المطلق والطائفية والمناطقية والتبعية العمياء ،وهم لا يملكون الحدّ الأدنى من المعايير المهنية والفنية في مجالات الحكم والإدارة. أضف أن الزعماء أنفسهم سكنوا القصور وابتعدوا عن الناس. ما يعيشه هؤلاء هو حالة انفصام حقيقية وانفصال عن الواقع. هم يعتقدون ويُخيّل إليهم أن ما يعيشونه في قصورهم يعيشه المواطنون. وهذا الابتعاد عن هموم الناس سيترك تأثيرًا سلبيًا في عملية اتخاذ قرارات يدفع اللبنانيون ثمنها اليوم.

والمُشكلة التي عانها ساسة البلاد منذ تفجّر المظاهرات الشعبية هي مشكلة تشخيص لحجم التحدّي أمامهم. هم ظنّوا أنها موجة غضب عابرة ثم أقنعوا أنفسهم بأن الخارج لن يتخلّى عنّهم ليصطدموا بالواقع. لم يعتقدوا للحظة أن هذه الأزمة طويلة. فعملية التشخيص هي ترجمة فعلية لأهليّة أهل الحكم في لبنان. هم واقعًا يُشكلّون اليوم خطرًا وجوديًا على الشعب اللبناني. فلكم أن تتخيّلوا أن حُكّام البلاد عاجزون عن إجتراح الحلول واتخاذ القرارات وفي حال اتخذوها تكون قرارات مأساوية تزيد من الأذى الحاصل. لذلك فالمشكلة في بعض نواحيها مشكلة أخلاق ومشكلة ذكاء.

من هنا ننطلق لنستنتج أن الأزمة اللبنانية طويلة ولذلك أسباب مرتبطة بأداء المنظومة الحاكمة ومؤهلاتها وما خلقته من سياسات وبرامج مُجحفة وظالمة.

وواقع الأزمة اللبنانية اليوم يُخبرنا أنها عميقة وبنيوية لم يعدْ يُؤثّر فيها الترقيع. والجوهر في عمقها هو شكل الإقتصاد اللبناني المُؤسّس على سياسات الإستدانة وسعر تثبيت سعر الصرف والدولرة. والمشكلة أن هناك من يحاول حلّ الأزمة بالاعتماد على هذه السياسات. إذ كيف يمكن حلّ مشكلة عبر أسبابها؟

فسياسات الإستدانة مُصطدمة بشروط الإصلاح، وهذه الشروط غير واردة على سلّم أولويات المنظومة. هم يُريدون المال فقط لإعادة تمويل أجهزة وكيانات منظومتهم الحاكمة والاستمرار من حيث انتهوا.

في المؤتمرات الدولية التي سبقت سيدر 1 كان لبنان مُرشّحًا لأن يُواجه هكذا أزمات، كون السياسات المالية المتبّعة ولاّدة أزمات لا حلول. لكن ما كان يشفع له هو المؤتمرات المختلفة كمؤتمرات باريس. هذه المؤتمرات أعطت نفسًا طويلًا لتأجيل الأزمة. ولولا هذه المؤتمرات لكان لبنان سيشهد انهيارًا في التسعينات أو في بدايات القرن الجديد. إذن الاقتصاد لم يكن يعمل بالطريقة الصحيحة، بل المؤتمرات الدولية من كانت تُؤمّن له الصمود.

ما تغيّر اليوم هو ما حصل في مؤتمر سيدر الأخير. ما طلبه المؤتمر هو الإصلاح كشرط للمال. لم يحصل الإصلاح، فاستعرت نيران الأزمة وتفجّرت في 17 أكتوبر وعرّت المشهد.

وفي أقلّ من عامين طارت الودائع وأقفلت كبرى المؤسسات وانهارت الليرة والانهيار في عملية يومية مستمرة.

وبحسب الخطة الاقتصادية التي طرحتها حكومة حسّان دياب، فإن حجم الخسائر قُدرّت بـ241 ألف مليار ليرة، فيما قدّرت لجنة تقصي الحقائق النيابية الخسائر بين 60 و91 ألف مليار ليرة. واعتبر صندوق النقد الدولي أن أرقام الحكومة هي الأقرب للحقيقة.

لكن في كلتا الحالتين فإن الخسائر كبيرة. وهناك في لبنان من يعتقد أن دولة ما في العالم قد تأتي وتُقدّم هذه الأموال وبكبسة زر ستُحلّ الأزمة. لكن الواقع بعيد عن أوهام هؤلاء، وعقلية الدكنجي لا يُمكن أن تصلح لإدارة اقتصاد.

إطفاء هذه الخسائر تتطلّب جهود وخطط ضمن إستراتيجية تعمل من أجل الإصلاح لأنه الشرط الوحيد لتقديم المال. والإصلاح بحاجة إلى وقت. والاقتصاد أرقام وسياسات فيما تعتبره الطبقة السياسة مجرد مساعدات مالية دولية للتمويل.

والإستراتيجية الحقيقية للإصلاح تتطلب تنويع شبكة العلاقات العامة الخارجية لتطوير البنى تحتية وجذب الاستثمارات وخلق فرص العمل.

الإصلاح في ظل هذه العقلية صعب، لكن لو اتُخذ القرار فإن عملية بناء الاقتصاد ستبدأ من الصفر. لا يتحمّل الإقتصاد الحالي أي ترقيع. ونحن نتعامل مع أزمة نموذج. بمعنى آخر حقيقة الأزمة في عُمق الإقتصاد وبُنيته لا بشكله الخارجي. لذلك من المهم تحديد ماهية وهوية الاقتصاد الذي نُريد؟ وموقع لبنان في محيطه الإقليمي وكيفية الاستفادة من ذلك؟ وهذا ما يأخذنا إلى البحث السياسي.

فلا اقتصاد من دون سياسة! خصوصًا أن حُكام لبنان بأجمعهم أجادوا ربط لبنان بلعبة المحاور وساهموا في استفحال الأزمة اللبنانية. فما كان يمكن حلّه من سنة أصبح صعبًا الآن والسبب هذه المنظومة. أصبحت أزمة لبنان اليوم ورقة في السياسة الإقليمية، لكن حلّها ليس مرتبطًا بالضرورة بأي انفراجة إقليمية، قد تساهم في التخفيف لكن إطفاء نيران الأزمة تتطلب رؤية اقتصادية ثاقبة تستفيد من أي انفراجة إقليمية.

لذلك نحن أمام تحديين للأزمة، داخلي مرتبط بالإصلاح وخارجي مُرتبط بانفراجة إقليمية. وكلا الأمرين لا يُبشّران بالخير. لذلك ستطول الأزمة وتستفحل.

وأزمة كالأزمة اللبنانية تُصبح صعبة أكثر مع الوقت. فالخطر الحقيقي هو الوقت، إذ إن تضييعه في الحاضر هو إطالة لأمد الأزمة في المستقبل.

بناءً عليه، تُدرك المنظومة أن الأمور خرجت عن السيطرة وهي تبحث عن طريقة لإدارة الأزمة. وكل ما تستطيع تقديمه لجمهورها وللبنانيين هو خلق اقتصاد الإعاشة كتعبير إضافي عن حجم الفشل والعجز التي تعيشه.

اقتصاد الإعاشة هو إستراتيجية السُلطة في لبنان لإدارة الأزمة الطويلة. فالحلول للأزمة العميقة يجب أن تكون عميقة وتطال الجذور والأُسس، والمنظومة خارج السمع.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد