ليس من المستغرب أن يتباهى المواطن اللبناني بالتعددية السياسية التي يعيشها، فلبنان بمثابة جزيرة من الحريّة في وسط يضج بالقمع والحرمان. لكن من الصعب جدًّا فهم هذه النوستاليجيا السياسية التي تحكم لبنان لدرجة لن يستطيع أي مواطن عربي أو غربي أن يعرف بسهولة ما التركيبة الكيميا سياسية وتفاعلاتها في هذا البلد. أكبر مثال على ذلك لبنان جزء من الوطن العربي، وله مقعد في جامعة الدول العربية، ورغم ذلك لا يعترف لبنان بعروبته المطلقة؛ لأن الدستور اللبناني سابقًا يذكر أن لبنان «ذو وجه عربي»، وهي كلمة فضفاضة جدًّا تتسع للعديد من التأويلات:
أليس لبنان في محيط جغرافي عربي؟
أليس شعبه يتكلم العربية؟
أليس له مقعد في جامعة الدول العربية؟
كل هذه التساؤلات حسمت مع اتفاق الطائف بتعديل هذه المادة واستبدل بها أن لبنان بلد عربي الهوية والانتماء، رغم حسم الهوية اللبنانية لصالح الحلف العربي، فإن ذلك لم يمنع من أن تطفو مسألة خلاف الهوية بين الحين والآخر.[1]
فقوى اليمين المسيحي لا يروق لها الوجه العربي، بل يرونه أطلنتس الشرق الأوسط، متناسين تاريخ المنطقة ليخلقوا ديباجة العرق الأول المهدد بالاندثار ولا سبيل لحمايته سوى بوصول اليمين للسلطة. وإذا أردنا النظر إلى اليمين اللبناني فهو ليس وليد اليوم، بل تعود جذوره لتاريخ تأسيس لبنان. مثل حزب الكتائب الذي نشأ عام 1936[2] كحركة شبابية متأثرة بالحركات الفاشية التي ظهرت في تلك الحقبة. لكن رغم وصول الحزب للسلطة عام 1982 لم يكن هذا الحزب قد سيطر على لبنان كليًّا؛ بسبب الحرب الأهلية والمعادلات الدولية. على عكس التيار الوطني الحر الذي وصل للسلطة بالمعجزة اللبنانية المعتادة، وهي التحالفات. يختلف التيار عن حزب الكتائب بأنه أول حزب يميني وصل للرئاسة بإجماع عام سواء كان سوريًّا، أم فرنسيًّا، أم إيرانيًّا فهو حزب لديه تحالفات دولية لا يستهان بها، عكس الكتائب الذي وصل بدعم أمريكي إسرائيلي دون دعم حلف المقاومة. لكن رغم ارتكابه العديد من المجازر ضد الفلسطينيين والقوى اليسارية، لم تطفُ هذه الممارسات على مؤسسات الدولة كما هو حال العهد القوي (التيار الوطني الحر).
لكن المثير للاستغراب بالتيار الوطني هو أن حاضره مختلف عن ماضيه؛ فنشأته الأيديولوجية كانت وسطية ضد الجماعات اليمينية المسيحية في لبنان، أما بعد وصول التيار للسلطة أصبح الأمر مختلفًا تمامًا؛ فقيادات التيار لا تفوت فرصة على المنابر الإعلامية للحديث عن خطر يهدد ديمغرافية لبنان أمام اللاجئين الفلسطينين والسوريين، فرئيس التيار جبران باسيل ضرب نظريات التاريخ وعلم الجينات عرض الحائط بتصريحاته، التي تتكلم عن تمايز اللبنانيين جينيًّا.[3] لكن السؤال الأهم لماذا هذا التمايز الجيني أو الاختلاف الذي يلعب على حباله جبران باسيل؟ أليست سوريا وفلسطين بلدين مجاورين للبنان، ولهما العرق الكنعاني نفسه الذي ينتمي إليه أهل بلاد الشام؟
بعد كل تصريح ناري يتفوه به جبران باسيل تتحول وسائل التواصل الاجتماعي لساحة حرب بين مؤيد ومعارض لهذه التصريحات، التي يراها الغالبية أنها تصريحات غريبة عن بيئتنا العربية، تلك المحاولات لاستنساخ نموذج يميني في الشرق الأوسط، وبالأخص في بلد غارق بالدين العام الذي فاق 80 مليار دولار لعدد سكان لا يتجاوز الـ5 مليون، تعد استراتيجية قديمة يتبعها اليمين لغض النظر عن مشكلات البلاد وتحويلها نحو الغريب أو الأجنبي. هذه الاستراتيجية يمكن أن تأتي ببعض الأصداء في أوروبا لدعمها اللاجئين من ميزانية الدولة دعمًا شاملًا، يشمل الراتب والسكن، والتأمين الصحي.
هذه التصريحات التي تحمل النازح السوري المشكلة، تتزامن مع تحركات على الأرض بالتضييق عليه في الحصول على الإقامة اللبنانية؛ فالحصول على إقامة في لبنان ضرب من خيال، أما تصريح العمل فيحمل شروطًا تعجيزية، بالأخص بعد حملة التيار الوطني الحر ضد العمالة السورية، رافقتها تغطية إعلامية من وسائل إعلام التيار، والتي لا يمكن وصفها إلا بأنها لا تمتلك أدنى الأخلاقيات الإعلامية، من خلال إذلال العمالة السورية على الهواء مباشرةً، ومطالبتهم بالرحيل بطريقة فظة جدًّا، لا يمكن سوى وصفها بالحركات التشبيحية.[4]
سياسة الإلهاء التي يتبعها التيار تارةً بأن لبنان مهدد بالخطر، وتارةً عن التمايز مع المحيط العربي المسلم، لن تشفع أمام الانهيار الاقتصادي اللبناني؛ لأن مشاكل لبنان تزامنت مع تأسيسه، وهي أكبر من أن تلخص بخلق فرص عمل جديدة عن طريق طرد اللاجئين؛ لأنه ببساطة لا يوجد بنى تحتيّة في لبنان من كهرباء وماء، فضلًا عن مشاكل المحسوبيات والفساد.
ناهيك عن سياسة تكميم الأفواه التي يتبعها التيار بحق الناشطين اللبنانيين؛ فقد «تم تسجيل أكثر من 60 انتهاكًا للحريات الإعلامية والثقافية في 2018 فقط، بين حجز وتحقيق مع صحافيين وناشطين، وحظر أفلام، إذ يعكس هذا الارتفاع في الأرقام عنفًا غير مسبوق ضد الفاعلين الإعلاميين» هذه الإحصائية لعام 2018 فقط، الأمر الذي دفع منظمة هيومن رايس واتش لدق ناقوس الخطر في لبنان لتراجع مستوى الحريات نتيجة قمع السلطات المحلية لمنتقديها.[5]
إن السياسة التي تتبعها حكومة العهد القوي (التيار الوطني) ليست سوى نسخة مستهلكة من اليمين الشعوبي الذي يفتقد لأيديولوجية واضحة؛ فجُّل اهتمام هذه الأحزاب ليس في لبنان فحسب، بل العالم بأسره، هو اللعب على غريزة البقاء للمجتمع الأصلي في مواجهة تجمع من الوحوش، وطبعًا نقصد هنا اللاجئين، الذين تعمل ماكينة اليمين الإعلامية على تصويرهم أشخاصًا بلا ماض أو حضارة، قطعوا مسافات فقط لينهوا وجود المجتمعات الأصلية. دون مراعاة أن هؤلاء اللاجئين هم فقط يبحثون عن مساحة جغرافية آمنة نسبيًّا.
لكن مهما حاولت هذه القوى تحويل لبنان نحو اليمينية السياسية يبقى لبنان أعمق من أن يوضع في خانة اتجاه سياسي معين، فلبنان بلد متعدد الوجوه، ووجود اليمين ووصوله لسدة الحكم ليس سوى تتويج للحرية السياسية، التي يعمل اليمين الآن على تقليصها، لكن ما يجهله اليمين رغم كل الحقب والحروب التي مرت على هذه البقعة الجغرافية، لم يستطع أي فريق إقصاء مكون من مكونات المجتمع اللبناني.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست