حيادية اللجنة ونية باخوميوس وشرعية تواضروس

في أواخر شهر فبراير (شباط) 2012، بدا واضحًا للمقربين أن الحالة الصحية للانبا شنودة الثالث قد تدهورت جدًا، وأن رحيله سيكون في ظرف أسابيع وربما أيام، لذا كان من المنطقي التحرك لترتيب البيت والتحضير لما بعد الانتقال المتوقع؛ لانه بعد رحيل الأنبا شنودة سيكون المطران الذى يفترض أن يتولى مسئولية قائمقام البطريرك هو الأنبا ميخائيل مطران أسيوط بصفته أكبر المطارنة سنًا، ولكن لأن الحالة الصحية لمطران أسيوط سيئة للغاية وهو شيخ مُسن، فغالبًا سيعتذر عن هذا المنصب، وبالتالي أيضًا سيئول منصب القائمقام إلى مطران البحيرة الأنبا باخوميوس، وقيل إنه سيعتذر عن المنصب أيضًا، وستدخل الكنيسة في صراعات إن اعتذر هذا الأخير.

وحرصًا منه على أستقرار الكنيسة، وبالتشاور مع بعض أصدقاء الكنيسة الأوفياء، ونظرًا لدالة الصداقة القديمة التي تربطه مع الأنبا باخوميوس مطران البحيرة، اتصل الدكتور مينا بديع عبد الملك الباحث في الدراسات القبطية وعضو المجمع المصرى والأستاذ الدكتور بكلية الهندسة جامعة الإسكندرية والجامعة الأمريكية بالأنبا باخوميوس، وطلب أن يلقاه في أقرب وقت في إيبراشية البحيرة(8).

وفي يوم الأحد 11 مارس (آذار) 2012 وقبل وفاة البابا شنودة بأسبوع واحد، وفي حوالي الثانية ظهرًا، وصل د. مينا لمدينة دمنهور لمقابلة الأنبا باخوميوس، حاملًا معه مقالات متعلقة بقوانين الكنيسة وتقاليدها وتاريخها فى فترة المخالفات والتجاوزات الكنسية التى حدثت منذ عام 1928 بجلوس الأنبا يؤانس البابا 113 على الكرسى البابوى مخالفًا قوانين الكنيسة، ومقالات للأستاذ نظير جيد، والمؤرخ الكنسى الأستاذ يسى عبد المسيح أمين مكتبة المتحف القبطى بالقاهرة، ومقالات قانونية للمستشار د. وليم سليمان قلاده، والمقالات التى صدرت من الإسكندرية فى الانتخابات البابوية المختلفة، وغيرها من الكتابات القانونية، وافتتاحية مجلة (مدارس الأحد) عدد مايو (أيار) 1950، التى كتبها الأستاذ نظير جيد، وكانت تحمل عنوان: (قوانيننا الكنسية)، حيث قال في مطلعها:

لم توضع القوانين الكنسية بإرشاد الروح القدس لتُعرض فى المتاحف كأثر من آثار الآباء، أو لتُحفظ فى المكتبات ليطلع عليها دارسو التاريخ القديم أو الحديث، وإنما وُضعت لتكون دستورًا ينظم كل أمورنا الكنسية. إن كل بند من بنود هذه القوانين لازم كل اللزوم لبناء شعب الله، غير أننا نجد أن هذه القوانين المقدسة مُعطلة فى أغلب مناحيها ومكسورة حتى من الذين عهد إليهم الله بحفظها وحراستها، ثم اختتم كلمته بقوله: وهناك قوانين كُسرت ويُخشى أن يُصبح توالى كسرها تقليدًا تسير عليه الأجيال المُقبلة كأنه قانون متوارث، مثال ذلك أن الكنيسة تمنع رسامة البطريرك من بين المطارنة.

وعلى مدى ثلاثة ساعات أستفاض د. مينا عبد الملك في شرح قوانين الكنيسة المتعلقة بالانتخابات البطريركية، وركز محور حديثه على قرار صدر من مجمع أساقفة الكنيسة القبطية في سنة 1865، بعد وفاة الأنبا ديمتريوس البطريرك 108 بعدم جواز ترقية الأسقف إلى البطريركية وأسند هذا المجمع قراره إلى الكتاب المقدس والقوانين والتاريخ وأقوال الآباء، وبعد الكثير من النقاشات، نظر الانبا باخوميوس إلى د.مينا عبد الملك وقال له نصًا: (ما هو رأى شعب الإسكندرية فى اللي عندنا؟) (وكان يقصد الأنبا تواضروس أسقف عام البحيرة) (9).

بعد أن تم الإعلان عن أسماء المرشحين للكرسى البابوي لم يفاجأ د. مينا بترشيح أسقف عام البحيرة الأنبا تواضروس؛ لأن هذا ما تأكد له فى مقابلته مع مطران البحيرة الأنبا باخوميوس، والذى صار بعد ذلك قائمقام البطريرك، فبادر بإرسال مذكرة إلى القائمقام اعتراضًا على ترشح أسقف عام البحيرة، والتى جاءت فى صفحتين كاملتين (10).

اعتراض عبد الملك على تواضروس جاء عبر ثلاثة أسباب رئيسة يمكن فهمها ضمنيًا من سلسلة مقالاته (الحلم الذي تبدد في كنيستنا)، حتى وإن لم يذكرها نصًا:

أولًا: أنعدام الحيادية، وميل القائمقام الأنبا باخوميوس مطران البحيرة منذ اللحظة الأولى، وقبل أسبوع كامل من نياحة الأنبا شنودة، ناحية أسقفه المساعد الأنبا تواضروس، فطبقًا لشهادة د. مينا عبد الملك، تلك اللي أوردها في الحلقة رقم 39 من سلسلة مقالاته (الحلم الذي تبدد في كنيستنا)، المنشور على موقع الدستور بتاريخ 2 مايو 2017، فبعد أن استعرض عبد الملك مع مطران البحيرة يوم الأحد 11 مارس 2012 ولمدة ثلاث ساعات، جميع قوانين الكنيسة التى تحكم اختيار أسقف الإسكندرية الذى يحمل لقب بابا وبطريرك، وجميع قرارات المجامع السابقة وكتابات الآباء المحدثين، فوجئ برد القائمقام الأنبا باخوميوس (والمفترض به ان يكون حياديًا ناحية الجميع) يجيبه قائلًا: (ما هو رأى شعب الإسكندرية في اللي عندنا؟) وقال هذه الكلمة بنفس النص، ويقصد (اللي عندهم) هو الأسقف العام الموجود في البحيرة الأنبا تواضروس، والذى تم اختياره بعد ذلك ليكون بطريرك الكرازة المرقسية!

ثانيًا: بطريرك الكنيسة القبطية هو الاسم المرادف للقب أسقف الإسكندرية‏،‏ لذلك طبقًا للقوانين الكنسية وقوانين المجامع المسكونية والإقليمية، ممنوع منعًا باتًا، بل محرم أن تتم رسامة أسقف، سواء كان أسقف إيبارشية أو أسقفًا عاماً، ليكون أسقفًا علي الإسكندرية، أو بمعني آخر أكثر وضوحًا تتم رسامة أسقف الإسكندرية من بين الرهبان الذين لا تزيد درجتهم الكهنوتية عن درجة قمص، وهو ما استعرضه د. عبد الملك مع الأنبا باخوميوس خلال حديثه المطول واستعراضه لجميع قوانين الكنيسة التي تحكم اختيار أسقف الإسكندرية، وجميع قرارات المجامع السابقة وكتابات الآباء المحدثين، وهو ما يتضح جاليًا أن الأنبا باخوميوس لم يكن لينصت أصلًا لحديث د. مينا عبد الملك، أو أنه لم يكن مقتنعًا بتلك القوانين الكنسية أصلًا.

ثالثًا: شخصية الأسقف تواضروس، وتلك الأخيرة أوردها د. مينا عبد الملك تفصيليًا في مذكرة جاءت فى صفحتين كاملتين، أرسلها إلى القائمقام اعتراضًا على ترشح أسقف عام البحيرة، وسلمها عبر وسيط إلى المقر الباباوي بالقاهرة جاء فيها نصًا:

أحقًا يريد الأنبا تواضروس أن يصير بطريركًا؟ ما هي المواهب التي لديه؟ أين كانت هذه القدرات يوم حوصِرَت كنيسة أبي سيفين بقرية «عبد القادر بحري» على بُعد بضعة كيلومترات من المقر الفخم الذي يقيم فيه وسط مساكن الشعب الفقير! وترك كاهنها الشجاع المتنيح القمص هدرا يستنجد به بالهاتف، وهو محاصر لعدة أيام، وبدلًا مع أن يشجعه ويسنده، ألقى باللوم عليه وكأنه هو المخطئ، حتى يتهرب من مساعدته أو حتى دعمه معنويًا، فكيف يستأمن على أسقفية الإسكندرية؟

أين كانت هذه القدرات يوم موقعة قرية «النهضة»؟ عندما ترك كاهنها المكافح يصارع الآلاف وحده، هل هذه كانت خطته أيضًا أن يتركه ليلقى مصيره قتلًا أو جرحًا!

ألا تتذكر أسقف الإسكندرية الشجاع البابا بطرس خاتم الشهداء البطريرك 17 عندما طلب من الجنود أن يضعوا حدًا للاستشهاد بقطع رأسه بحد السيف، وينقذ شعبه وينجيهم، أين كانت هذه القدرات في أحداث قرية «العراق»، تميز بأنه يملك أذنين واحدة من طين والأخرى من عجين. أين الشجاعة والشهامة والنخوة؟

في يوم احتفال إيبارشيته بعيد رسامته السنوى كأسقف، توقفت القداسات في هذا اليوم في جميع أنحاء الإيبارشية واتجه جميع الكهنة وزوجاتهم للقائه.

وفي أحد الأيام ذهب إليه مجموعة من خدام الإسكندرية الأتقياء الذين يخدمون طواعية فقراء قرى «عبد القادر» و«العامرية» وغيرهما الذين لا يهتم بهم أحد، وطلبوا منه مساعدات مالية حتى يقدموها لشعبه الفقير ويسدوا عوزهم، فقابل طلبهم بالرفض وعدم الاهتمام، وعندما أصر الخدام الأمناء على ضرورة الحصول على مساعدة قال لهم: (أنتم مش عارفين بتكلموا مين؟) فانصرف الخدام، وحضروا إلىّ (إلى د. مينا عبد الملك) وعرضوا عليّ الموضوع وطلبوا مني أن أتصرف لإنقاذهم من المشكلة التي هم بها، فقمت بعرض الموضوع على البابا شنودة الذي لم يفكر لحظة في تقديم المساعدات المطلوبة، وقال لي: (يا ابني لما تكون هناك مشكلة، لا تتردد في أن تحضر لأبيك).

نية الأنبا باخوميوس التي ظهرت واضحة يوم لقائه بد. مينا عبد الملك يوم الأحد 11 مارس 2012، مع ذلك المقطع المثير للجدل، المتداول على موقع يوتيوب(11)، والذي يظهر جليًا يد الأنبا باخوميوس بعد أن طوى الورقة التي تحمل اسم الأنبا تواضروس بنفس الطريقة التي طوى بها الورقتين الأخرتين، وهم بوضعها داخل الكرة البلاستيكية الشفافة، والتقط بالفعل الكرة من الحقيبة السوداء بيسراه ليضع بها الورقة بيمنيه، لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة لسبب غير مفهوم، وأعاد الكرة للحقيبة السوداء، ثم طوى ثلث الورقة المطوية أصلًا مرة إضافية، فصارت الورقة التي تحمل اسم الأنبا تواضروس مميزة واضحة جلية يسهل تمييزها بمنتهى البساطة عبر الكرة البلاستيكية الشفافة، ثم أحكم إغلاق الكرة وختمها، وفي لحظة اختيار الطفل للكرة أمسك باخوميوس يد الطفل ووضعها بمنتهى الهدوء على كرة الأنبا تواضروس، ولم يتبق للطفل سوى أن يحكم قبضته ويسحبها للخارج، وهو ما تم بالفعل، وظهر جليًا بالفيديو. 

على فرض أنه اختيار الله بحسب ما يتدعي البعض، هل البطريرك المرقسي معصوم من الخطأ والحطيئة؟

لسنوات عديدة ظلت العلاقة بين الكنيسة القبطية الأرثوذكسية والكنيسة الكاثوليكية متوترة بسبب العديد من الخلافات والاختلافات، على رأسهم اعتراض الكنيسة القبطية الأرثوذكسية على العقيدة الكاثوليكية المعروفة باسم عصمة البابا، والتي قدمتها الكنيسة القبطية لشعبها المسيحي القبطي بصور مغلوطة معظمها كاذب للأسف، بداية من كتب اللاهوت المقارن الذي أورد نص العقيدة بشكل مقتضب، مع تصريح مختصر بفسادها، وانتهاءً بتحريفها شفهيًا لأطفال مدارس الأحد في الكنيسة الأرثوذكسية وتقديمها بصورة مغلوطة ومخالفة للحقيقة، على نحو يوحي أن الكاثوليك يعتقدون بعصمة البابا من الخطيئة، وبالطبع الخطأ.

والفارق بين الخطأ والخطيئة معروف، فالخطيئة هي ما يحاسب عليها الله عباده مثل الغش والكذب والزنا والسرقة والقتل، أم الخطأ فهي الأخطاء الإدارية مثل القرارات الكنسية التي تحكمها دوافع سياسية، أو إقحام الدين في السياسة، وتأييد ونفاق الحكام على سبيل المثال.

فعقيدة العصمة البابويّة الكاثوليكية في حقيقة الأمر لا تعصمه من الخطأ ولا من الخطيئة، بعكس الصورة التي قدمتها الكنيسة القبطية الأرثوذكسية لأتباعها، ولا تعني إطلاقًا أن البابا معصوم من الخطيئة في حدّ ذاته، ولا تتعلق بحياة البابا الشخصية أصلًا، فهو إنسان بالتّمامّ، يخطئ ويمارس سر التوبة ويعترف عن خطاياه، ويدرك الكاثوليّك تمامًا أن البابا، وعلى الرّغم من مكانته العلميّة الكبيرة، إلا أنه إنسان مُعرّض للخطأ والخطيئة، أما عقيدة العصمة الباباوية فهي عقيدة تنبع من الإيمان بأن أسقف وبابا روما بصفته خليفة القديس بطرس ومؤسس كنيسة روما، فهو ينعم بنعمة العصمة عندما يعلن، بصفته السلطة العليا في الكنيسة، عقيدة أو تعليمًا كنسيًا يهدف إلى إنماء وحماية وفهم الإيمان المستقيم، وتتعلّق العقيدة بعصمة تعاليمه الإيمانيّة، وبحكم دوره كراع أوّل للكنيسة، كما أنّه يمارس تعاليمه الشّخصيّة في مجال تخصصه من دون أن تسري عليه هذه العصمة، فمثلًا إذا ما كان متخصصًّا في مجال الاقتصاد، أو الهندسة، أو الطب، أو أي علم آخر، تظلّ كتاباته وأراؤه كأيّ كتابات أخرى معرضة للخطأ والانتقاد

وهو نفس الاعتقاد الذي تعتقده الكنيسة القبطية الأرثوذكسية حرفيًا، بل تزيد عليه، فالكنيسة القبطية الأرثوذكسية التي كانت تعارض الكنيسة الكاثوليكية في مسألة عصمة البابا من الخطيئة، أصبحت الآن تعتقد اعتقادًا شفهيًا مُعاشًا ومطبقًا ومعمولًا به، غير مكتوب وغير معلن، بعصمة بطريرك الأقباط من الخطيئة، وحتى من الخطأ (لاحظ الفرق بين الخطأ والخطيئة)، و يكفي نظرة بسيطة غير مدققة على تصريحات الكنيسة ورجالها واعتقادات عوام الأقباط وحتى المثقفين والمستنيرين منهم، في الخمسين عامًا الماضية، لتؤكد اعتقادهم وإيمانهم العميق والراسخ أن كل قرارت البطريرك الإدارية وتصرفاته وآراءه الشخصية وميوله واختياراته وانحيازاته السياسية، حتى وأن قادة الكنيسة والمسيحيين إلى الطريق الخاطئ، فهي قرارات صحيحة لا تقبل الانتقاد او المعارضة، وما يقوله البابا وحتى بصفة شخصية وحتى لو مخالفًا للمجامع وللتعليم المستقيم، يُعتبر عقيدة لا يمكن حتى أن تناقش (12) (13).

فإن كان اختيار المسيح ليهوذا الإسخريوطي، لم يعصمه من خيانة المسيح، فهل الاختيار الإلهي للبطريرك (على فرض أنه إلهي) يضمن جودة الشخص الجالس على الكرسي المرقسي ويعصمه من الخطأ؟

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

علامات

آراء

المصادر

تحميل المزيد