عند عودة رئيس الجمهورية من رحلته العلاجية الثانية من ألمانيا، وبمجرد استقباله من طرف المسؤولين السامين للدولة بالقاعة الشرفية لمطار بوفاريك، أخبر الرئيس مستقبليه بأنه قرر حل المجلس الشعبي الوطني، ما أعطى انطباعا بأن الرئيس تبون مستعجل بخصوص هذه الخطوة ولا يريد فتح نقاش سياسي بخصوصها. ما فُهم منه أنّ تجديد أعضاء المجلس الشعبي الوطني يدخل ضمن برنامج سياسي للرئيس يريد من خلاله توجيه بوصلة الإصلاحات التي وعد بها بصفته مترشح للانتخابات الرئاسية لسنة 2019، وهذه نقطة جوهرية في فهم ما بعد اعلان حلّ المجلس وانطلاق التحضير للانتخابات، لأنّ السياق السياسي العام كان يستدعي حوارا قبل هذا القرار الانفرادي وذلك لم يحصل.

وإذا ما أضفنا إلى ذلك أن عدّة قراءات كانت ترجّح أن فواعل الحكم في النظام الجزائري بشقيها السياسي والعسكري لم تكن متحمّسة لاستعجال الرئيس في حل المجلس الشعبي الوطني، فإن الأغلب أن الرئيس تبون اختار حلّ المجلس والتوجه لانتخابات مسبقة حماية لنفسه من احتمال دفعه للاستقالة بداعي وضعه الصحي، ومن ثم فإن حلّه للمجلس سيخلط أوراق بعض مناوئيه ويمكنّه من ربح بعض الوقت لترتيب قصر المرادية واستعادة زمام الحكم لصالحه مشروعه السياسي الذي وعد به الشعب.

انطلاق التحضير للانتخابات.. انقلاب السّحر على السّاحر

كان باديا لأبسط ملاحظ أن هناك خللا وارتباكا في عملية التحضير لهذه الانتخابات، فالرئيس أعلن عن حل المجلس الشعبي الوطني في خطاب للأمة دون أن يعلن تاريخ اجراء الانتخابات، وبعدها بأيّام أعلن عن تاريخ الانتخابات دون أن يكون قانون الانتخابات جاهزا، وبعد أيام أصدر قانون الانتخابات بأمريه رئاسية ولعلّ أبرز اختلال تضمنه القانون هو الإبقاء على تركيبة السلطة المستقلّة للانتخابات السابقة والتي أشرفت على انتخابات ديسمبر 2019 الخاصة بانتخاب رئيس الجمهورية وكذا الاستفتاء الشعبي على الدستور في نوفمبر 2020. وظهر بعد ذلك أن مندوبيات السلطة المستقلة على مستوى الولايات والتي أعطيت لها كل الصلاحيات التنظيمية والتحكيمية بأنّها على قدر كبير من عدم الكفاءة والتخبط، وأذكر هنا ما حصل على مستواها من تجاوزات في مرحلة جمع التوقيعات المفروضة على الأحزاب والقوائم الحرّة، فقد سُجّل جهل عدة رؤساء مندوبيات بمضامين قانون الانتخابات ناهيك عن مشاهد المحاباة بحكم أن عدّة منهم معروف بولاءاتهم الحزبية السابقة بشكل مفضوح.

وبالعودة إلى مستشار رئيس الجمهورية المكلّف بالمجتمع المدني، فقد كان جليّا بأن الرجل يقوم بحملة انتخابية مسبقة لا يمكن اغفال طموحه الشخصي ضمنها بأن يحظى “بترقية سياسية”، فاستغلّ المستشار وسائل الدولة من قاعات وقنوات إعلامية لاستمالة الشباب من أجل الدخول في الانتخابات بقوائم غير حزبية حتّى يتمكن من انشاء أرضية لاحتمال انشاء حزب سياسي بعد الانتخابات. وهنا يجدر التنويه بأن أغلب الظن أنّ هذا التوجّه إما كان تملّقا من المستشار للتقرب من رئيس الجمهورية وإما أنه كان تلاعبا من قبل بعض الدوائر المقرّبة من الرئاسة لصناعة مشهد يقوّي شوكتهم بعيدا عن خيارات الرئيس تبّون الذي صرّح بأنه غير معني بما أشيع عن نيته تأسيس حزب بعد الانتخابات تكون دعامته أساسا من الكتلة النيابية للأحرار، لكنّ هذا لا ينفي مسؤوليته عن هذا التشويه الذي طال العملية الانتخابية.

الحراك والانتخابات.. صراع الدكتاتوريات

للأسف فقد ظهر بعد اعلان تاريخ الانتخابات أننا أمام دكتاتوريتين، الأولى أصحابها أولئك الذين تعودوا على اعتبار خيارات السلطة بأنّها “نصوص مقدّسة ومُلزمة” لا يجب مناقشتها أو الاعتراض عليها ومضوا يصفون كل معترض على الانتخابات بأنّ وطنيّته منقوصة، وهذه الفئة ليس غريبا عليها أن تتسلّق سلّم التملّق على ظهور المخلصين. لكنّ المؤسف أنّ بعض “أنصار” الحراك المبارك والذي يُفترض أنّهم ينشدون الوصول إلى الديمقراطية ودولة الحق والقانون، راحوا يكيلون التّهم لكل من اختار المشاركة في الانتخابات واعتبروا ذلك ردّة وخيانة للحراك الذي صاروا يستشعرون بأنّهم مُلاّكه وأصحاب الحق فيه دون سواهم.

وهنا أقف وقفة صريحة قد تُغضب الكثير ولكنّ مصلحة البلاد بالنسبة لي فوق كل اعتبار، إنّ الخلل الأساسي الذي يعاني منه الحراك من وجهة نظري هو ارتكازه على الوجوه الحقوقية أساسا، فلقد انساق الجميع في الحراك وراء الحقوقيين الذين تقتصر نظرتهم على أعراض المشكلة السياسية، وأقصد بذلك أن التركيز على التجاوزات بحق المتظاهرين والمعتقلين، الذي ندينه ونرفضه طبعا من دون أدنى تردد، سهّل من مهمة من يريدون وأد شعلة الحراك المبارك الجامع عن طريق جرّ التوجه العام للمطالب باتجاه ثنائية الاعتقال والمطالبة بالإفراج. ونتجت عنه حالة شعورية لدى المتظاهرين اشتملت على استنهاض الشعور بالقهر واستعادة جروح الماضي من حقبة عشرية الأزمة، فحاد النقاش واقتصر على أعراض الأزمة السياسية المعقّدة التي نمر بها وسمح هذا أيضا بتسلل بعض التيارات التي حاولت اذكاء الصراع الإيديولوجي على حساب وحدة الصف. أعود وأوضح رأيي بما لا يدع لبسا، إنّ أزمة النظام كانت ولا تزال في عدم احترام بعض المنتمين للمؤسسة العسكرية والأمنية منذ الاستقلال لحدود تأثيرهم في المجال السياسي، وبالمقابل فإنّ أزمة الحراك تكمن في عدم احترام بعض الحقوقيين لحدود دورهم المُفترض في دعم الفاعلين السياسيين، فالأزمة في الجزائر سياسية محضة وعلى الجميع أن يعي بأن الحلّ لن يكون إلاّ سياسيّا.

ماذا بعد الانتخابات التشريعية؟

بعد أقل من شهر يُفترض أن مجلسا شعبيا جديدا سيم انتخبه، لكن ماذا بعد؟ هل سيتحقق التغيير المنشود أو جزء منه؟ هل سيتأزم الوضع أكثر مما هو عليه الآن ويتعقّد؟

الإجابة البسيطة في تقديري، أن مخرجات الانتخابات بما أفرزته مرحلة التحضير لها من معطيات لن تكون جزءا من الحل السياسي، كما أنّ استمرار الحراك بمضمونه الحالي لن يكون عاملا في توجيه البوصلة السياسية باتجاه تحقيق مطالب دولة الحق والقانون المنشودة.

ما العمل إذا؟ أعتقد أن الرئيس تبّون أمام مسؤولية تاريخية يجب عليه أن يتحمّلها قبل أن يتّسع الخرق على الرّاقع. إن التوجّه لإطلاق حوار وطني شامل تقوده شخصيات متّزنة وتقدّم له ضمانات حقيقة تمكّنه من جبر خواطر المنكسرين جرّاء الظلم الذي طال الكثير ممن خرج في الحراك ولا يزال، وتمكّن أيضا من استرجاع ثقة الطبقة السياسية الجادة المستمرة في دعم الخيار السياسي ولو على حساب مكاسبها الحزبية، وطبعا دون اغفال ضرورة إزالة حالة الريبة لدى الفاعلين من داخل المؤسسة العسكرية والأمنية بخصوص نمط الديمقراطية المنشود وبأنها لن تحيد عن خيار الانتقال الديمقراطي المتفاوض عليه وغير الانتقامي.

نعم بإمكان رئيس الجمهورية إطلاق حوار وطني وتحميل الجميع المسؤولية التاريخية في هذا الظرف الوطني والدولي الحسّاس، وإلاّ فإنّ باب الفتنة المغلق سيُكسر… وحينها لن ينفع الندم ولا تقاذف تهم المسؤولية.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

تحميل المزيد