يدفع البعض ثمنًا باهظًا، فقط في سبيل معرفة الدور الذي يجيد لعبه.

(1)

برعت جماعة الإخوان المسلمين طوال تاريخها في لعب دور المعارضة. مرت على الإخوان ظروف كثيرة طوال تاريخهم، تأرجحت علاقاتهم مع كافة الأنظمة التي حكمت مصر، وكانوا في كل عصر وزمان يجيدون اللعب في هذه المساحة، ويحسنون استخدام أدواتها.

بعد قيام الثورة، ظنت جماعة الإخوان في نفسها القدرة على الانفراد بالحكم ولعب دور الحكومة للمرة الأولى في تاريخها، وفي جعبتهم خبرات سياسية متراكمة أعطتهم مبرر التقدم إلى السلطة، مصدرين أنفسهم للجمهور باعتبارهم التنظيم الوحيد الذي تمكن من أن يصنع من نفسه بديلاً للنظام السابق.

ولكن فات الجماعة أن الشعب لا يريد بديلاً لنظام الحكم، بل يريد بديلاً لسياسات الحكم.

(2)

في فترة الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي برع الفنان الكوميدي عبد السلام النابلسي في لعب دور السنيد عبر عشرات الأفلام الناجحة. جاء وقت خلبت البطولة البراقة لبه، فتقدم لشغلها معتمدًا على جماهيريته وخبرته في العمل مع نجوم عصره في دور السنيد.

ولكن النتيجة، فشل فشلاً ذريعًا، لأنه لم يفطن إلى الدور المرسوم “على مقاسه”.

(3)

 

لم تكن الثورة التي أوصلت الجماعة للحكم، مسرح البطولة للجماعة، فقد انضم أتباعها للثورة متأخرين، ليصبحوا جزءًا من مشهد كانوا فيه أقرب للضيوف منهم للمنظمين.

وفي الفترة التي تلت الثورة، لعب الإخوان دور “السنيد” للمجلس العسكري، يجلسون معه للتفاوض، ينظمون مظاهرات مقلمة الأظافر ضده، ويلعبون معه الدور اللائق بهم، حتى ألقى بهم إلى بحر لم يجيدوا فيه عومًا.

حاز الإخوان على أغلبية مقاعد البرلمان والرئاسة، وظلت الجماعة تستخدم في الحكم نفس أدوات المعارضة، فنجد أعضاءها يشكلون ميليشيات لحماية المجلس من المعارضين، ونجد مكتب إرشادهم يعلن “الاستنفار” لتأييد إعلان مرسي الدستوري، ونراهم ينظمون مظاهرات لحماية الشريعة، في الوقت الذي يشغل أعضاؤهم أغلب مقاعد جمعية صياغة الدستور.

الإخوان في الحكم لم يدركوا أن المظاهرات جزء من أدوات المعارضة، مثلما لم يدركوا أن مرسي كان قد أصبح رئيسًا لمصر، وليس رئيسًا لحزب الحرية والعدالة.

سواء في البرلمان أو الرئاسة لم ير الشعب أمامه إلا جماعة مضطربة، متخبطة في حكمها، مستهلكة شعاراتها، مرتعشة أياديها.

لم تكن للجماعة استراتيجية في الحكم، أو مشروع للقيادة، فخرج المتظاهرون يهتفون في جمعة الحساب “مشروع النهضة طلع فنكوش”.

لم تقدم الجماعة أي قانون يشعر المواطن أنه أمام جماعة تستحق أن تحكم، حتى قانون “الصكوك” استعارته الجماعة من قانون وزير الاستثمار في عهد مبارك محمود محي الدين، ولم تزد عليه إلا بوصف القانون بأنه “إسلامي”، وهو نهجها الدائم والوحيد في وضع بصمتها على أي شيء.

لم تكن استعارة قانون من عهد مبارك عزفًا منفردًا، فقد أعلن رجل الأعمال الإخواني حسن مالك لوكالة رويترز أن “السياسات الاقتصادية التي كانت متبعة في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك كانت تسير في الطريق الصحيح، لكن شابها تفشي الفساد والمحسوبية. يمكن أن نستفيد من القرارات الاقتصادية السابقة، عرف رشيد محمد رشيد جيدًا كيف يجتذب الاستثمارات الأجنبية، وكانت قراراته صائبة في هذا الصدد”.

هكذا كان حكم جماعة ترى في نفسها البديل!

ولم تكن للجماعة رؤية واضحة تجاه مؤسسات الدولة، فالجيش من “إحنا عندنا رجالة زي الدهب في القوات المسلحة” إلى “جيش كامب ديفيد”، والشرطة من اعتبار أن تزامن الثورة مع عيدها دليل على أنها “الحامي الأول للوطن والشعب والثورة” إلى “الداخلية بلطجية”.

(4)

 

من لا يعرف إمكاناته لا يعرف دوره، ومن لا يعرف دوره لا يستطيع استشراف مصيره.

لم تعلم الجماعة حدود قدرتها وإمكاناتها، فاستغل العسكر الفجوة بين ما تستطيعه وبين ما تطمح إليه، ليلقي بهم في هذه الفجوة ويتخذ من سقوطهم جسرًا لتحقيق مصالحه، مرة بعد المرة.

“وضح لي تمامًا أن جمال عبد الناصر قد اختار في هذه المرحلة أن يمضي في طريق الإخوان المسلمين، وأنه اشترى صمتهم بإعادة جماعتهم.

وقد أغراهم ذلك على التهادن كفرصة انتهازية للقضاء تمامًا على فكرة عودة الأحزاب والحياة البرلمانية، ثم الانفراد بالسلطة بعد ذلك، وهم لا يدرون أن هذه المهادنة كانت موقفًا تكتيكيًّا لضمان سكوتهم في محاولة القضاء على الديمقراطية وعليّ شخصيًّا.. ثم تعد خطة جديدة للانقضاض عليهم بعد ذلك”.

هكذا قالها محمد نجيب في كتابه “كلمتي للتاريخ”، ولكن يبدو أن الإخوان لا يقرأون التاريخ، فاضطروا أن يعيشوه مرتين.

تخبط الإخوان في الحكم مهد لعودة الديكتاتورية العسكرية، فالشعب يفضل ديكتاتورية متمكنة على ديمقراطية مراهقة.

تجول الإخوان في أنحاء الأرض بعد أن سحبت السلطة منهم وعاد حظرهم وتعقبهم أمنيًّا، وملأوا الدنيا ضجيجًا بتحليلاتهم عن سبب سقوط حكمهم، ملقين الذنب مرة على أمريكا ومرة على دول الخليج، ومرة على الدولة العميقة ومرة على شباب الثورة، وجهوا أصابع الاتهام بفشل حكمهم إلى كل الأطراف إلا أنفسهم.

فشلت جماعة الإخوان في الحكم، لأنها لم تؤهل لكي تحكم، لأن من عاش طوال تاريخه يرتدي رداء المعارضة المحدودة، يجيد فقط المناوشة مع الحكام، لا بد أن يهرول في رداء الحكم الواسع.

(5)

قرر عبد السلام النابلسي ألا يلعب دور البطولة مرة أخرى، والعودة لمكانه ومكانته.

تبحث جماعة الإخوان الآن عن البطولة الضائعة.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد