أجبرتنا الشركة التي أعمل بها على حضور دورة تدريبية لا أذكر عنوانها وإن كنت أعلم أهدافها وأهداف الدورات المماثلة وذلك “العلم” الكاذب المستحدث والذي لا أراه إلا أكبر وأسوأ عملية غسيل مخ جماعي في التاريخ الحديث، دون أية مبالغة في الوصف.
أثناء الدورة التدريبية أخبرتنا المدربة بقصة واقعية حدثت لإحدى زميلاتها، كانت الزميلة تقود سيارتها في الطريق إلى العمل، دون أي مقدمات أتت سيارة مسرعة وصدمتها من الخلف فانكسر “الإكصدام” الخاص بسيارتها، نزلت الزميلة من سيارتها ونزل معها زميلها الذي كان بصحبتها وهو يستعد للدخول في مشاجرة مع السائق الأهوج الذي أوشك على وضع حياتهما في خطر، فماذا فعلت الزميلة؟
حملت الإكصدام ووضعته في الكنبة الخلفية للسيارة وأكملت قيادتها للعمل بهدوء، عندما سألها زميلها لم فعلت ذلك! قالت أنها يمكن أن تنفعل وتغضب ولكن ذلك سيكون بلا فائدة فما حدث قد حدث والقرار الحكيم الآن ألا تدعه يفسد بقية اليوم فوراءها اجتماع هام في العمل لا تريد أن تتأخر عليه.
قد يبدو لك المثال أعلاه عاديًا أو قد يبدو تصرفًا حكيمًا كما رأى زميلي الجالس بجواري، لكن المثال في سياقه لم يكن سوى دعوة للتنازل عن الحقوق والاستخفاف بالمشاعر الإنسانية وتقديم أهمية العمل على أهمية العيش بكرامة وفي أمان وسلام، نعم قد أفعل مثلما فعلت زميلة المدربة لكن إن كنت خائفًا من الدخول في مشاكل مع السائق الذي ربما يحمل سلاحًا يؤذيني به، ربما أفعل مثلها لأني أعلم أني مهما فعلت لن أستعيد حقي في بلد كالذي كتب علينا العيش فيه.
لكن أن أتخلى حتى عن مشاعر الغضب والحنق وأدعي أن إهدار حقوقي ينبغي أن أتعامل معه باعتباره شيئًا عاديًا لأني لا أريد التأخر على اجتماع في العمل فهذا تصرف غير إنساني ويجعلني أتساءل: هل للعمل في حد ذاته قيمة تستحق أن نعتبره الأولوية القصوى للإنسان حتى لو كان ذلك على حساب كرامته؟ أن يأخذ العمل كل جهدنا وأوقاتنا فلا يتبقى لنا طاقة أو مساحة من الوقت نستغلها في العيش كأناس طبيعيين يتنزهون ويذهبون إلى السينما ويمارسون أنشطتهم بحرية تامة؟! فما قيمة العمل إذن إن كان يمنعك من الحياة كإنسان طبيعي له متطلبات وحاجات متعددة؟!
في احتقار المشاعر الإنسانية ورد على لسان إحدى مدربات التنمية البشرية ألا يحتفظ أحد بصداقة الأشخاص كثيري الحزن والاكتئاب واستبدالهم بأصدقاء متفائلين مبتسمين تشع منهم الطاقة الإيجابية، لم تكن تلك دعوة فردية بل اتجاه عام في اليوتوبيا الخاصة بهم، إذا تعرض صديقك لأزمة في حياته بدلت فرحه حزنًا فما عليك إلا التخلص منه واستبداله بآخر سعيد ومنطلق كي تتجنب الطاقة السلبية الصادرة منه!
اكتب في سيرتك الذاتية أنك تحب العمل الجماعي ولديك مهارات تواصل جيدة، دعك من أن المبدعين عادة هم أشخاص متوحدون، يحبون العزلة والعمل الفردي ويبدعون فيه ويقل إنتاجهم كمًا وكيفًا إذا شاركهم فيه آخرون، فالمعايير هنا في هذا “العلم” يضعها كبار رجال الأعمال وهدفهم فيها واضح تمام الوضوح؛ المزيد من المال.
ورؤيتهم في ذلك هو جعل موظفيه نسخ متكررة من موظف واحد، الموظف الذي يضع عمله على قائمة أولوياته حتى إن لم يكن عمله هذا يحقق له السعادة والرضا، مع الوقت أصبحت متطلبات العمل واحدة مهما كانت طبيعته وهي في النهاية تتلخص في قدرتك على التحول إلى روبوت يتم برمجته لصنع أشياء معينة بطريقة معينة دون أن يظهر تفرده الخاص فيما يقوم به، فلم نعد نجد المنتج الذي يحمل بصمة صاحبه الخاصة بل معايير ومواصفات معينة وضعها أصحاب الصناعة الكبار.
إن ما سبق وأوردته من أمثلة يمكن ألا تبدو لك بالخطورة التي أراها ولكن إن استمر تجار التنمية البشرية في عمليات غسيل المخ بهذا الشكل ستتحول مجتمعاتنا بالتدريج لروبوتات هدفها الأساسي والوحيد هو خدمة أصحاب المال والنفوذ لينتهي بنا الحال تطبيقًا عمليًا لرواية جورج أورويل 1984 أو للفيلم العبقري Equilibrium فإن لم تكن تلك هي الحياة التي تنشدها لك ولأبنائك من بعدك فدع تلك الحياة وابدأ القلق على مستقبلك ومستقبلهم من الآن عسى أن يدفعك القلق للتغيير الذي تستعيد به آدميتك واحترامك لذاتك وقيمك الخاصة
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست