في ليبيا منذ الاستقلال، لن تقيدك مؤهلاتك العلمية أو خبرتك المهنية أو مهاراتك المعرفية للحصول على وظيفة أو فرصة في القطاع الخاص، مستقبلك يعتمد على عامل أكثر أهمية، فكل أحلامك وطموحاتك تتوقف على الصدفة!
كأن يصل أحد أبناء قبيلتك على سبيل المثال إلى منصب وزاري أو وظيفة عليا في الحكومة. حينها فقط يمكن أن تفتح لك الأبواب بفضل ابن عمك «المصباح السحري»، أو أن تكون لك مهارات اجتماعية عالية ومن المواظبين ليلًا ونهارًا على حضور كافة المناسبات الاجتماعية وخاصة المآتم، وتنسج علاقات تبادل للمنافع بـ«قيادات الكولسة الشعبية» في القبيلة، أو يتبناك أحد الكولاسة المخضرمين.
وإلا سيكون مصيرك كحال الغالبية العظمى من الشباب الليبي، الذين وجدوا أنفسهم، بعد أن أنهوا دراستهم المهنية والجامعية، مضطرين إلى التطفل على أعمال لا علاقة لها بمسارهم الدراسي، غالبًا ما تكون ضعيفة المردود المادي، وغير مضمونة المستقبل. وذلك فقط لأنهم ليس لهم علاقة أو صلة قرابة وتبادل منافع بـ«قيادات الكولسة الشعبية» في القبيلة.
المحاصصة تقف وراء انعدام تكافؤ الفرص، وجعلت النجاح الاقتصادي لا علاقة له بمؤهلاتك أو خبراتك أو مهاراتك، والدليل على هذا أن الغالبية العظمى من الرأسماليين في ليبيا من الأسماء المعروفة، جمعوا ثرواتهم عبر دوائر الفساد، كما أن هذه الأسماء عبارة عن مجموعة سماسرة وطفيليات تعيش على الاعتمادات، لن تجد واحدًا منهم له مشاريع خارج ليبيا، أو في دول تتميز بأسواق مفتوحة تحكمها المنافسة والمعرفة وتساوي الفرص.
والمحاصصة من جعلت السفارات الليبية أوكارًا للمجرمين والعاطلين عن العمل والأميين والسفهاء، ممن يتقاضون مرتبات خرافية بالعملة الصعبة، وجعلت الوظائف الدبلوماسية من سفراء وقناصل وملحقيات عسكرية حكرًا وقسمة ضيزى بين جهويات بعينها!
المحاصصة كانت ستارًا للانتهازيين والغوغائيين ممن أغلقوا الحقول النفطية، وتسببوا في ضياع أكثر من 100 مليار دولار، ولم تتم محاسبتهم حتى الساعة! والمحاصصة سبب كل الفوضى الأمنية، واستمرار بقاء البلاد في ظلام دامس لساعات طويلة يوميًّا.
والمحاصصة كانت وراء ترشيح حكومة الوفاق اللاوطني لهؤلاء الضباط لـ«المجلس العسكري»، الذي من المفترض أن يجمع الجيش الليبي تحت قيادة واحدة! بدلًا عن معايير الأقدمية والخبرة والتخصص والكفاءة!
والمحاصصة هي التي غيبت الغالبية العظمى من الليبيين عن ممارسة حقهم في المواطنة الكاملة، كما غيبت الكفاءة وقيم النزاهة في تسيير الشأن العام. ونمت في ظل هذه المحاصصة، أبشع المظاهر المعيقة للتنمية كالرشوة والاستزلام والمحسوبية، فلم تعد الوظائف العليا ومراكز القرار في الدولة إلا قطعًا من الكعك، توزع وفق مبدأ مقايضة الولاء بالسلطة والنفوذ، لا عبرة بالكفاءة والجدارة.
والمحاصصة هي من شجعت على الفساد المالي والإداري ونهب المال العام، لوجود حصانة اجتماعية تحول دون مساءلة هؤلاء اللصوص، وبالتالي إشاعة الفساد، لإرضاء «خبراء التكوليس» من القيادات الشعبية الذين أوصلوا هؤلاء المسؤولين إلى مناصبهم، بتقاسم الغنائم من ميزانيات واعتمادات مصرفية ووظائف عليا، وكل أنواع البزنس المتمثل في العقود الحكومية من خدمات وصيانة وتموين على سبيل المثال لا الحصر!
فالأنظمة الحاكمة المتعاقبة على حكم البلاد منذ الاستقلال في عام 1951، تعيد نسج التحالفات القبلية والجهوية، بما يخدم بقاءها واستمرارها. ويجري ذلك غالبًا، بإبرام اتفاقات ضمنية بين الحاكم و«القيادات الشعبية الاجتماعية» التي تدعي تمثيلها للمكونات التي تنتمي إليها، الأمر الذي أثر في بنية مؤسسات الدولة وجعلها هشة ضعيفة، وبالتالي انهيارها بالكامل بعد أحداث عام 2011.
وللحديث بـقـية.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست