أصبحت الحرب المعاصرة شبيهة بلعبة كرة القدم. فقد تقلصت رقعة العمليات الحربية من الفضاء العالمي إلى الفضاء الإقليمي، وكأنها بطولة كروية عالمية في ضيافة بلد ما، حيث تتعدد فيها الفرق المتنافسة، بينما يتوحد فيها الملعب الذي يستقبل المباريات. هذه الحالة تعكسها الحرب التي يمكن تسميتها بالحرب العالمية الليبية، والتي اختارت العديد من القوى الدولية المتنافسة الميدان الليبي لنقل معاركها الطاحنة هناك.
لم تمض إلا أيام قليلة على انعقاد مؤتمر برلين في 19 يناير (كانون الثاني) 2020، حتى أصدرت هيئة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا بيانًا حول استمرار انتهاك حظر التسليح فيها، من خلال استمرار نقل المقاتلين الأجانب والأسلحة والذخيرة والمنظومات المتقدمة إلى الأطراف، من قبل دول من بينها من شاركت في مؤتمر برلين لإيجاد حل للازمة في ليبيا.
تدخل القوى الأجنبية في ليبيا لم يكن وليد الأزمة الحالية، فبالرجوع إلى اندلاع الحرب الليبية الأولى بين نظام معمر القدافي والثوار سنة 2011، فقد بادر الحلف المكون من الولايات المتحدة الأمريكية، وفرنسا، والمملكة المتحدة، أو ما أطلق عليه «تحالف الراغبين» إلى مباشرة العمليات العسكرية الجوية بإطلاق عملية «فجر أوديسا» ابتداء من 19 مارس (آذار) 2011، إلى جانب هذه الدول عرضت دول أوروبية أخرى مثل إيطاليا، وإسبانيا، وبلجيكا، والنرويج، والدنمارك مساهمتها في هذه العمليات من خلال فتح القواعد العسكرية الجوية على أراضيها، وتقديم الدعم والإمدادات اللوجستية اللازمة للعمليات.
دول عربية أخرى دعمت هذا التدخل العسكري، وأيدت الثوار من خلال تقديم الدعم اللوجيستي من عتاد وتموين وإمدادات، والحديث هنا عن مصر، والإمارات، وقطر، والكويت، والأردن، بل من الدول العربية من قدم الدعم العسكري السري المباشر للثوار، كما هو الحال بالنسبة للسودان التي عملت على إرسال عناصر من الجيش السوداني لتدريب الثوار وإرسال عدد من الأطباء والفنيين والأدوية إلى بنغازي عاصمة الثوار آنذاك للمساهمة في عمليات إنقاذ الجرحى والمصابين.
إذن ما الذي حول ليبيا من ميدان للعمليات العسكرية الهادفة إلى إزاحة النظام الشمولي لمعمر القذافي، وإنقاذ الشعب الليبي من جرائم هذا النظام، وانتهاكات حقوق الإنسان، مثلما كان معلنّا آنذاك، إلى حلبة للصراع بين القوى الدولية المتنافسة، والتي تحاول فرض واقعها على الأرض عسكريًٌا من خلال إغراق ليبيا بالسلاح والمقاتلين؟
الصراع الإيديولوجي بين أنقرة وأبو ظبي
حملت ثورات الربيع العربي تغييرات كبيرة على مستوى الأنظمة الحاكمة، تمثلت في صعود تيار الإسلام السياسي المعتدل إلى سدة الحكم بطريقة ديمقراطية في العديد من الدول العربية، الشيء الذي خلق تيارين إيديولوجيين متنافسين، الأول مساند للحكومات الإسلامية العربية تتزعمه تركيا، والثاني معارض لها تتزعمه الإمارات العربية والسعودية.
اتسعت الهوة بين التيارين منذ عملية إطاحة الرئيس المصري السابق محمد مرسي، الذي ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين المقربة من حزب العدالة والتنمية التركي، وتأزمت هذه العلاقات أكثر بعد الانقلاب الفاشل الذي حدث في تركيا يوم 15 يوليو (تموز) 2016، حين اتهمت وسائل الإعلام المقربة من أردوغان الإمارات بدعم الانقلاب، خاصة بعد تعبير بعض وسائل الإعلام الإماراتية مثل قناة «سكاي نيوز» وقناة «العربية» عن دعمهما للانقلاب. وحسب تقارير إعلامية تركية وقطرية فقد ألمح وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو إلى الإمارات حين قال: «إننا نعلم أن دولة قدمت 3 مليارات دولار دعمًا ماليًّا لمحاولة الانقلاب في تركيا».
هذا الصراع الإيديولوجي بين القطبين التركي والإماراتي انعكس على النزاع الليبي، فالمحور الأول يدعم فصائل مصراتة المتحالفة مع رئيس المجلس الرئاسي، فايز السراج. في حين يدعم الثاني قوات الجنرال المتقاعد خليفة حفتر. وهو الشيء الذي أكدته غير ما مرة بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، وآخرها إحاطة الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، غسان سلامة، المقدمة إلى مجلس الأمن يوم 30 يناير الماضي، والتي صرح فيها: «يعتريني قلق عميق إزاء التعزيزات العسكرية التي يتلقاها الجانبان، مما ينذر بوقوع نزاع أوسع نطاقًا يضر بالمنطقة برمتها. فقد تواصل تلقي الطرفين المتحاربين لعدد ضخم من المعدات المتقدمة والمقاتلين والمستشارين من جهات خارجية راعية، وذلك في انتهاك صارخ لحظر التسليح وكذلك للتعهدات التي قدمها ممثلو هذه البلدان في برلين».
الجغرافية الليبية والحدود المفتوحة على العالم
من الأشياء التي جعلت من الأراضي الليبية ميدانا للعمليات العسكرية بين القوى الدولية المتنافسة هو جغرافيتها الطبيعية وانفتاح حدودها البالغ طولها 4348 كيلومتر على 6 من الدول الإفريقية، أغلبها مناطق غير خاضعة للمراقبة الأمنية، وقد استغل قطبا الصراع في ليبيا هذه المعطيات لإغراق ليبيا بالسلاح والعتاد، حيث يستفيد المعسكر الإماراتي من امتداد الحدود المشتركة لليبيا مع حليفه المصري من جهة الشرق، والبالغة 1115 كيلومترًا، بينما ستستغل تركيا شساعة الشريط الساحلي الليبي والبالغ 1770 كيلومترًا لتموين حلفائها على الأرض بالحاجيات العسكرية واللوجيستية، وفي 27 نوفمبر (تشرين الثاني) وقعت حكومة الوفاق الوطني الليبية والحكومة التركية مذكرة ترسيم الحدود البحرية بين البلدين بمنطقة البحر الأبيض المتوسط، وبالرجوع إلى خريطة تحديد هذه الحدود، سنجد أنها ترسيم لجسر بحري بين البلدين يتقاسمان السيادة عليه مناصفة، ويضمن نقل ما يشاءان من عتاد ومعدات دون تدخل من أحد.
شكلت ليبيا القرن العشرين منطقة جذب وحرب بين القوى العالمية، بدءًا من الحرب الإيطالية التركية، والتي بدأت في 29 سبتمبر (أيلول) عام 1911، وانتهت في 18 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1912 بإخراج الدولة العثمانية من ليبيا، مرورًا بعملية البوصلة التي نفذتها القوات البريطانية وحلفاؤها من دول الكومنولث ضد القوات الإيطالية في شرق ليبيا، خلال الحرب العالمية الثانية في ديسمبر 1940، والتي مكنت من إيقاع هزيمة قاسية بالقوات الإيطالية، وكان لها دور كبير في تحول موازين القوى في الحرب العالمية الثانية من دول المحور إلى دول الحلفاء، وانتهاء بسيطرة محور بريطانيا وفرنسا على الأراضي الليبية ما بين 1943 و1951، قبل استقلال ليبيا في 24 ديسمبر 1951 تحت اسم المملكة الليبية المتحدة. وبعد تسعين عامًا من الاستقلال ستعود الأراضي الليبية ميدانًا للعمليات العسكرية، فاتحة الباب لحرب عالمية ثالثة، باستراتيجيات لعب جديدة.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست