في مطلع العام الجاري ثارت ثائرة الحقوقيين والمعتدلين في أمريكا على حكم محكمة أمريكية برفض دعوى عدم دستورية التجسس على المسلمين في أمريكا.
وكتب يومها المحامي والناشط الحقوقي الأمريكي البارز أرجون سيثي منتقدًا رفض الدعوى: “يجب على الأمريكيين بشكل عام الشعور بالقلق من هذا الحكم، وليس المسلمون فقط، فما الذي يمنع القضاء الأمريكي من التجسس على الأمريكيين من أصول أفريقية بداعي وقف النشاط الإجرامي في المجتمع؟”.
استرجعت هذه الحادثة وأنا أطالع خبر عن تطوع مواطن من “المواطنين الشرفاء” بالإبلاغ عن شقيقين بريطانيين لتحدثهما الإنجليزية في المترو، ولمح المواطن أن حديثهما تطرق إلى ثورة 25 يناير، ففطن المواطن بدهائه المخابراتي الفطري أنهما ينتميان إلى جماعات إرهابية تدبر لضرب مصر. وبعد استجوابهما في الأمن الوطني تبين “عدم صلتهما بما أدعاه الراكب، وتم إطلاق سراحهما”.
وتزامنت هذه الواقعة مع واقعة رفض دخول الباحثة الأمريكية ميشيل دان مصر، بحجة محاولة دخولها بدون “تأشيرة سليمة”، ولكن المطالع لآراء دان عن النظام المصري الحالي سيعرف سبب عدم السماح لها بدخول مصر.
لم تكن هاتان الحادثتان وقائع فريدة تدلل على الهاجس الأمني المقارن لنظرتنا لكل ما هو أجنبي، فسبق أن اعتدى “مواطنون شرفاء” على أجانب يقومون بتصوير فيلم تسجيلي في منطقة دار السلام الشعبية وهم يهتفون “الحقونا في جواسيس”. وكانت هذه نتيجة منطقية لحالة السعار التي صدرتها السلطة للشعب على خلفية تعقبها للمنظمات الحقوقية الأجنبية العاملة في القاهرة.
وتجددت حالة الإرهاب من الأجانب عقب موجة 30 يونيو الثورية، ومحاولة السلطة أن تسوق للمؤامرة الخارجية ودور وسائل الإعلام في نقل صورة مغلوطة عن نظام ما بعد الإخوان في مصر، وهو ما نتج عنه اعتداء الشعب على فرق عمل القنوات الفضائية التلفزيونية الأجنبية في مصر، وأبرز ما حدث هو الاعتداء على فريق عمل قناة “ARD” الألمانية.
(2)
وإذا أراد النظام يومًا أن يشوه صورة أحد من المعارضة، فإن النغمة التي تجد صدى شعبيًّا واسعًا هي وجود صلة من أي نوع كانت بين شخص المعارض للنظام وجهات أجنبية مجهولة، فالبرادعي، نائب رئيس الجمهورية سابقًا، “عميل أمريكي، وحامل للجنسية النمساوية”، وبلال فضل، من مواليد الإسكندرية، “حامل للجنسية اليمنية”، وحركة شباب 6 أبريل، “ممولة من جهات أجنبية”.
وعمد أتباع جماعة الإخوان التي لا تستحي، إلى البحث في نوايا وأفعال المجابهين لهم، ليتوصلوا إلى ما يمكن استخدامه في التشكيك في إسلامهم. وأتذكر يوم 30 يونيو وهم ينشرون صورة على صفحتهم لميدان التحرير ليشيروا إلى وجود عدد قليل يصلي فيه، مستنتجين من ذلك نزول المسيحين فقط للتظاهر، ونقص في إسلام المسلمين في المظاهرة. لقد ذهبت أوهامهم إلى كل شيء، ولكن لم تع عقولهم الشيء الوحيد الذي خرج المتظاهرون من أجله.
المهم لدى هؤلاء وأولئك الحفاظ على نقاء العنصر المصري والديانة الإسلامية من هؤلاء المتآمرين، الذين ينفذون بمعارضتهم مؤامرة أجنبية تستهدف الوطن والدين!
ولا أعلم من أبلغ هؤلاء أنهم يزدادون وطنية بقدر ما يشككون في وطنية المعارضين، أو أنهم يصبحون أكثر إيمانًا بمقدار تكفيرهم لمن يخالفهم.
(3)
رفع عصر عبد الناصر شعار “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”، ورفع السادات شعار الترهيب من الشيوعية والماركسية، وجاء مبارك في خطاب في أول عهده يحذر فيه من أن “مصر مستهدفة”، وظل مرسي طوال خطابه العابر للساعات يختزل إطلاق الدعوات الصادرة للتظاهر ضد نظامه في “فلول” النظام السابق، وأخيرًا عمد النظام الحالي لرفع شعار “الحرب على الإرهاب”.
أثرت هذه حالة في عقلية الشعب المصري الذي حرصت أنظمة الحكم في تغذية عقله بأنه دائمًا تحيق به المؤامرات والأخطار، ما جعله في حالة استنفار وإعلان دائم للطوارئ، بينما كانت أنظمة الحكم تستغل هذه الحالة لإعطائها مشروعية دهس الحقوق، والجور على الحريات، واحتكار مقدرات الوطن.
لقد تبنت كل هذه الأنظمة وصفة هتلر للسيطرة على شعبه: “إن الشعب يريد شيئًا يخاف منه، إنهم يريدون شيئًا يرتجفون منه خوفًا، إنهم يريدون ما يفزعهم”.
(4)
يخصص البرلمان الأمريكي شرفة للمواطنين لحضور جلسات البرلمان، وهكذا البرلمان الألماني الذي لا يفصله سور عن الشارع، وتكتسي قبته بالزجاج الشفاف تأكيدًا على الشفافية التي تحرص عليها الحكومة الألمانية.
ويمكن لأي مواطن أن يدخل أي جامعة في أوروبا الغربية وأمريكا في أي وقت، حيث تفصل مساحات خضراء بين الجامعة والشوارع.
كان هذا يشكل دهشة لي، فأين الأسوار وأين الأسلاك الشائكة والبوابات الحديدية والتفتيش الذاتي والمصفحات التي تطوف خارج الجامعة؟
لقد اكتشفت أن الهاجس الأمني الساكن في تلافيف عقولنا انسحب ليشكل كل شيء حولنا، بداية من شكل المرافق نهاية لتعامل الحكومة مع الرأي العام بسياسات تتجنب الشفافية، وتخشى من وضع قانون تداول للمعلومات.
هذا الهاجس الأمني المجبول فينا والمرسخ بفعل سياسات أنظمة الحكم، رسم ملامح الحاكم النموذجي في مخيلتنا. فإذا كانت الشعوب التي تعيش حياة متزنة وهادئة تهدف للبناء والتعمير تختار نموذج الرئيس الذي يجيد السياسة والإدارة، لتسير معه واعية واثقة، فإن الشعوب التي يستبد بها الخوف والرعب وتحسب أنها فريسة يلتف حولها الذائب تختار نموذج الحاكم الذي يجيد المناورات واستخدام السلاح، لتسير خلفه راضية خاضعة.
(5)
إذا كنت مصري فمنذ ميلادك ستكون أمام خيارين، إما أن تحتمي بالسلطة من سهام لم تراها يطلقها أعداء لا تعرفهم، وستكون مطالبًا حينها أن تذعن لها وتسير في ركابها مقدمًا فروض الولاء والبراء، وإما ستتجرد من وطنيتك وستكون مطالبًا حينها بأن تبحث عن تذكرة ذهاب فقط.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست