«عطلة يا بؤس العطل إن كان هذا كل ما تعنيه»! همست بها مع نصف ابتسامة تكاد تكون تكشيرة في حقيقة الأمر، ثم سألت نفسي ـ تلك التي هدها الملل وأضناها تتابع أيام الصيف بِحَرِّها والخمول الذي يلف مساءاتها ـ لو لم أكن هنا، في أي مكان تراني أكون؟ ولغرابة الأمر لم أتخيل نفسي أتقبض ذراع أحدهم، حبيبًا كان أو صديقة، إنما رأيتني أحمل حقيبة ظهري، وأرتدي حذاء رياضيًا، واقفة على صخرة فوق جبل عالٍ، لأتأمل شروق الشمس هذه المرة لا غروبها.

أبتسم للمارة، أغرق بعيونهم فأتذكر أغنية فيروز «أسامينا»، أدندن بها في غبطة، أطرب لسماع لغة غريبة عني، ألمس حيطان الأزقة العتيقة، أمضي، تتقاطع خطواتي وخطوات ثوار من هنا مروا، ولأن لكل مدينة ثورة، أرهف السمع، فتتسلل هتافاتهم، تغمرني بكل ما فيها من أمل وألم، أنصت لأصوات العصافير، أطعم قطة قطعة جبنة، أداعب فروها، ألقي التحية على موزع البريد ذي النظارات الدائرية.

بعدها وعندما تؤول الشمس نحو مغيبها تاركة انعكاسات أشعتها الحمراء على جدران المنازل البالية، لتلامس وجه طفلة تطل من شرفة صدئة، أتوقف لرشف قهوة سادة على «رَواء» كما يقول أهل الشام، يفتر ثغري عن ابتسامة رضا واسترخاء، هذه لحظة نادرة حيث تشعر أن هناك ما يستحق الحياة. النهر يجري أمام عيني فأسال بغباوة صادقة إلى أين هو ماض؟ أإلى البحر أم أنه قادم منه؟ صدقـًا لست أدري الإجابة؛ في لحظة ترتفع سمكة سلمون لتغمزني بمرح، ودلفين وردي اللون قفز إلى أن تلامست راحتانا، سلمنا بعضنا على بعض فصار كفي ورديًّا يتلألأ.

أترك الكأس فوق طاولة المقهى، وأمضي بين الجموع الغفيرة أتأمل بحزن عذب مرح أطفال الشوارع، ضحكاتهم لها سحر لست تفقه ماهيته، ولكنه يترك بقلبك كتلة أسى. أتوقف عند بائعي المأكولات فوق الأرصفة، وبعد بضع قضمات، رشفات هنا وهناك، أجدني أخطو فوق الطريق العام بتمهل، بروية، الصمت يلف المكان، تتابع خطواتي الكسلانة فوق الشريط الأبيض المتصل تارة والمتقطع تارات أخرى، نظرت مطولا نحو أفق السماء الممتدة، لونها أزرق ليلكي، والبدر كان قد توسطها مكتملاً، مضيئًا على غير العادة، الأشجار العتيقة على جانبي الطريق تمتد في ترتيب متقن، ترتفع إلى أن تلتقي أغصانها فتصنع بذلك نفقـًا يحجب كل شيء، صرت وحيدة، أبتسم، أزيل غطاء رأسي، ألقيه أرضًا، أسدل خصلاتي وأضحك، يلامس جسدي عليل المساء محملاً بعطر أزهار مسك الليل، فجأة تنضح الموسيقى هادئة، على أنغامها الخافتة أخطو خطوات راقصة، على مهل، خطوة خطوة، أمد ذراعي على كلا الجانبين، كفراشة تفرد جناحيها تمتلئ أملًا، لتحلق بخفة بين الورود، وهكذا كنتُ، ثم وعلى حين غرة، ارتفعت الألحان غاضبة، حيرني مزاجها، أثارت بي كل الغضب، وكأنها نادت مواجعي لتطفو فوق السطح بعد أن كنت قد أحكمت وثاقها هناك بأبعد نقطة بروحي، استسلمت لها، غمرتني فبدأت أقفز، كنت كلما فارقت قدماي الأرض أنتشي، وكلما اصطدمتا بها يغمرني الواقع بشره وثقل دمه، فأصر على مفارقته، لأقفز بكل إصرار آمل أن تطول مدة الفراق، ولم يمض الكثير من الوقت لِتَخورَ قواي، لم يفدني هذا في شيء، لعنت الجاذبية وتفاحة ذاك المخبول ومادة الفيزياء، صمت للحظة ثم شرعت أصرخ، أميل برأسي نحو اليمين والشمال، أدور حول نفسي بجنون، تغرورق عيناي، تدمعان، يسيل أنفي، ويمتزج الكل مع كثير من اليأس.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد