أشير بداية إلى عباد المصطلح والمسميات، إلى الناظرين لكل تلك الشعارات البراقة الزائفة، إلى المتحزبين للفرق والجماعات، أذكرهم بأمة تتقاسمها الأمم وتقتطع منها حصصًا تقتات عليها وتنمو بها.
ولنعلم أن ليست الشعارات والنظريات مناط الحكم الوحيد على الجماعات والأفراد. فالعاقل من ينظر إلى الأفعال والتاريخ، وينظر إلى الهدف من كل حراك، نظرة بعيدة كل البعد عن العاطفة. فالعبرة في المآل والنتائج.
ولا يغرنكم منهج التصنيف والفرز، فإذا لم يكن الواحد منا في هذا التنظيم فهو من ذاك، وإن لم يذعن لقول فلان فهو مع قول فلان، وإن خالف تلك الكلمات فهو أسير تلكم الكلمات.
أناقش هنا السلفية باعتبارها تيارًا لا دعوة، ميز نفسه عن عموم أهل السنة بميزات، أناقشه باعتباره تنظيمات وحركات ومجموعةً من الأفكارِ محددةً وأشخاصٍ، أناقشه بفرض أنه اعتبر نفسه خاصة الخاصة وصفوة الخيرة.
فلا أعني بأي حال الدعوة التي قادها أمثال ابن تيمية وابن القيم وابن دقيق، لكن أعني الذين تَسموا بالسلفية وتركوا مضمونها، وما أكثر ذلك في الأمة، وهنا واجب أن نميز بين السلف والسلفية، والتصوف والصوفية، وأن نميز بين كل أصحاب دعوة حقة وبين خلف أضاعوا وضلوا.
فماذا قدمت السلفية غير الذي قدمته التيارات الكبرى في هذه الأمة، وماذا أصلحت؟ هل أعادت عامة الناس إلى دينهم؟ هل أقامت دولة الإسلام؟ هل نقلت الأمة من هوانها إلى العزة؟ لم تفعل، بل قدمت ما قدمته كل الجماعات والفرق.
فزيادة في الانقسام، وانشقاق على انشقاق، إلى اتخاذ كثيرين منهم الدين مطية، وهنا لا أنقل ما يقوله الأعداء ولا أتكلم بما يعلنه الأصدقاء وإنما من أفواههم، ثم أسأل. ألم يفرز هذا التيار الغلاة والمرجئة على حد سواء؟! فمن ينكر؟
لم تستطع التجربة السلفية أن تقدم لهذه الأمة نصرًا واحدًا، ولا ينظرنّ علينا أحدهم أن كفى بها إعادة الشباب إلى هذا الدين الحنيف واستئصال البدع من عقولهم وتصرفاتهم.
فالعودة بشبابنا إلى الحنيفية الأولى لم تكن من عمل هذا التيار أو ذاك بخاصة، ونصرة الدين لم تكن من أهل هذا الحزب أو ذلك، وما كان التجديد على أيدي تلاميذ هذا التيار ولا ذاك، وإنه لمن البهتان أن ننسب خدمة الدين إلى تيار أو مذهب أو جماعة دون غيرها، وعلى المخالف أن يتساءل عن مبادئ ومذهبية صلاح الدين، والمظفر والناشرين لدين الله في أفريقيا، والعثمانيين الأوائل وغيرهم.
لقد خرجت السلفية من عباءة المفهوم الديني لتصطبغ بالرؤية السياسية للنخب والدول، هذه باختصار حال السلفية التيار، إذ لم تعد السلفية ذلك الحلم المراود للنخبة المسلمة بإعادة الناس إلى دينهم والانتقال بهذه الأمة إلى النصر المؤزر والتمكين، بل مشاريع سياسية لجهات معينة، اصطدمت أو تقاطعت مع العديد من المعتقدات في دائرة من الفوضى المُدارة من قبل مشايخ ووجاهات.
لكم أن تنظروا إلى حزب النور في مصر وما يقابله من تنظيم الدولة في سوريا وصحاري العراق، كمثال بسيط ظاهر على البون الشاسع تحت راية السلفية الواحدة.
لكم أن تنظروا إلى ردة الفعل المختلة لسلفية اليمن، والحوثيون يدكون أبواب صنعاء ويتوسعون في طول البلاد وعرضها، ويتمددون ليهددوا أرض الحرمين ويفرضوا وجودهم على أرض الحكمة.
لقد انتقلت السلفية من مرحلة النشوء والنظرية إلى الواقعية، متخلية بذلك عن وردية الحلم الفكري، فغدت بذلك وقد تمزقت وتحللت أسسها التي حددها الأولون، فلم تعد تحمل منهج ابن تيمية أو ابن عبد الوهاب بل منهج شيوخها المعاصرين فقلدت بذلك أهل المذاهب، من التعصب للرجال بداية، وليس انتهاء بالتحزب للرأي، فأصبحت وقد تركت الهدف الذي من أجله وُجِدتْ لتزيد الفرق فرقة والجماعات جماعات.
لقد أضحت السلفية منهجًا حزبيًا بامتياز، فاتخذها تيارٌ إسلامي واسع الطيف شعارًا وجماعة، وما تلك العنونة للسلفية بأنها اتباع منهج الرسول وصحبه إلا كعنونة التَشيّع بأنها حب النبي وآل بيته أو كتلك الحكاية عن اعتزال المعتزلة، ولو أرادوا اتباع منهج الحق لثبتوا على الذي سمانا به الله، لثبتوا على اسم الجماعة الكبرى والأمة العظمى والصفة العليا، لثبتوا على تسمية المسلمين، التي اختارها رب العباد واختصنا بها، أم في أنفسهم غاية؟
لقد باتت السلفية بمفهومها الحالي عبئًا ثقيلاً على الدعوة إلى منهج السلف، وعثرة على طريق العمل المنظم المراد به الوصول إلى تطبيق الشريعة والعودة إلى فطرة الإسلام.
من أسس السلفية نبذ التعصب للافتات والأشخاص وترك الأسماء وتعزيز مفهوم الولاء والبراء على أساس الإسلام الدين لا الجماعة ولك أن تنظر إلى الذي يفعله السلفيون من تعصب لشخصيات وولاء لجماعات وتعصب للافتات.
نقرأ للشيخ بكر أبو زيد في “تصحيح الدعاء” (ص 215): “أما جماعة المسلمين، قفاة السنة والأثر، فهم لا يتخذون لقبًا يتميزون به، فإن ما تراه وتسمعه من ألقابهم الكريمة: أهل السنة، أهل السنة والجماعة، أهل الحديث، أهل الأثر، أهل الحديث والأثر، أتباع السلف، السلفية.
إنما جاءت لمـّا نشب الافتراق، وبانت فرق الضلال، فيُؤتى بواحدٍ من هذه الألقاب؛ لتميز الهداةُ عن الغواة، وإلا فهم جماعة المسلمين، وما يدعون إليه هو الإسلام”.
فهل صحيح أن هذه إنما جاءت للتوضيح والتمييز على سبيل لقب كريم ووصف عابر، إنما جاءت لتفصل بين منهج الحق السليم والمناهج التي لعبت بها الفلسفات والترهات، ولتصف جماعة الناس الثابتين على الهدى القويم، وإنها تسمية قديمة ونادى بها علماء كبار، أم أنها كانت كذلك ثم أصبحت اسمًا يميز تيارًا وجماعة، ويُعرّف عن منهج وفلسفة معينة في الفهم والاستدلال، ومذهبًا خامسًا وفرقة عقدية جديدة.
هي صحيحة لو تسمى بها الرجل والاثنان وزين بها أحدهم اسمه أو اتخذها آخر كنية باعتبارها مدلولاً اصطلاحيًا لا عنوان تيار، باعتبارها لقبًا خاليًا من الدلالة الحزبية والمعاني المشاريعية والرؤى السياسية المختلفة للحركات المكونة والدول الداعمة!
مثلها مثل أثري وشرعي وتوحيدي “حاليًا”، أما أن تكون لجماعة فتلك الطامة، وما نادى بها أعلام الأمة إلا دلالةً، وما نادوا بها وحدها تيارًا أو حراكًا، وإنما استخدموا عديدًا من الكلمات والمفردات تدل على المقصود، مع أن الذي يريد الإيضاح والتمييز يكفيه أن ينسب نفسه للسنة تمييزًا لجماعته عن الضلال ونسبًا لنفسه إلى هدي الرسول، فإذًا لا معنى للتَسمّي بغيرها، أليس يخشى أن تكون من تزكية النفس؟! أفلا يكفي أن تنسب نفسك للسنة والجماعة للتتميز عن أهل الزيغ والضلال من الفرق؟
لقد أصبح من الكذب والاجتراء على السلف الصالح أن ننسب نفسنا لمُسمى السلفية وتحت رايتها من يسوقون كل كذب وبهتان على دين الله. ويصرون على الدمج الأعمى بين الإسلام ومسمى السلفية، كالملك يحكم العباد باسم الله.
أين الحاجة في أن تتسمى خاصة من السنة بالسلفية ونحن نعلم أن الفرق المفارقة لهدي النبي والجماعة تصنف في إحدى حالتين، فإما داخل دائرة الإسلام وإما مارقون كافرون بدين الله، فيكون بذلك تصنيف المفارقين كافيًا لتستخلص المؤمنين، ووافيًا عن التسمي والتحزب، خاصة ونحن نعلم أن هذه الخاصة لا تكون جماعة وحزبًا، وإنما فكرًا خالصًا من الشوائب نقيًا لا يعرف إلا صحيح الدين والهدى يحمله أي من يحمله.
قريبًا من النهاية نعرج إلى ثورة الفاروق في سوريا. الفاضحة، التي لم تترك ملفًا ما كشفت عن خفاياه. ما هو موقع السلفية؟ هل حررت السلفية “جهادية” كانت أم “سرورية” أم أيًا كان تصنيفها شبرًا لم يحرر الجيش الحر – بتصنيفه قوة لا “سلفية” وبفكر البعض لا “إسلامية” – شبرين مقابله؟ أليس كل رجل في دمشق وحمص عشرين في غيرهما؟! ولك أخي أن تنظر ما يغلب على هاتين المدينتين من تشكيلات مسلحة!
وأسأل من سينبري ليؤكد أن الدين لمن صدق وليس لمن سبق، ماذا قدم هذا التيار إلى هذه الثورة إلا مزيدًا من التعقيد والتشويش، مزيدًا مما يقدمه بكل كرم كل تيار عمل في هذه الثورة، ربما قد قدم “إقامة” الشريعة!
إنه لتلبيس أن نُصرّ ونستمر في اعتماد مصطلح أضحى اسمًا وعلمًا لفرقة وجماعة لندلل به على عموم الأمة أو لنشير به إلى منهج الحق، ولقد بات من الضروري أن نعير اهتمامًا لكل تلك الفوضى الناشئة في فضاء ثقافتنا الإسلامية، فننفي كل خبث يراد به ضرر أمتنا وتحزيبها للسياسات والأيديولوجيات وإدخال شبابنا في كومة من التعقيدات والتفرعات.
يقرن السلفيون جملة التعريف – أنا مسلم – بجملة “بفهم السلف” مع أننا لا نعلم دينا يدان به دون الرجوع إلى القادة والرجالات القدامى حماته والدعاة الأولين له بفهمه.
إن السؤال المهم الذي يجب أن نطرحه اليوم، أننعي كل هذه المسميات التي أثقلت كاهل الأمة؟ أم نقبل بها بكل ما تحمله من عجر وبجر وويلات تجرها على أمتنا، إرضاءً لهوى وعُقد؟
نحن اليوم في أمس الحاجة إلى العمل على جمع شمل الأمة لا زيادة تفريقها وتشتيتها، ولا أنادي هنا بجمع صوري يُبقي كل ذي بدعة على بدعته، وإنما بجمع يعيد كل مخلوق إلى فطرته، بل أؤكد على وصف كل جماعة بوصفها؛ فالشيعة شيعة والمعتزلة معتزلة والخوارج خوارج، والسلفية سلفية.
لقد ذقنا الأسى وما زال العار وراء العار يجثو فوق صدورنا ونحن نتعصب ونعقد الولاء ونعلن الانتماء للجماعة والتنظيم لا الدين والمنهج، فإلى متى؟
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست