جالسًا بالقرب منه، أعطيته أذنًا والباقي امتلكه هاتفي بين يدي محاولًا كتابة شيئًا ما: “نحن اليوم نبث من أقدم مدينة بالتاريخ…”.

أوف!! تذكرت.. إنها دمشق، مدينتي، ما زلت حيًّا عليها رغم كل الحروب.

يتحدثون وكأنها منة علينا يجب أن نستمتع بها دومًا. نعم أقدم عاصمة تعيش أسوأ حرب.

لا لا، لن أتحدث عن الوضع السياسي أو العسكري لا أريد الخوض بهذه الدوامة، ولا بكلمة أخرى.
نعم، كنت أتحدث عن منة العيش في أقدم عاصمة مأهولة!!!!

لست هنا لأنتقص من قدر بلد أو أرفع من قدر أخرى، لكن أن نجعل معيار “الحضارة” هو التاريخ أو الأقدمية فلا ليست بالأقدمية، “أعيش” بأقدم عاصمة وصديقي بأحدث عاصمة أيهما أفضل!!! هنا نحتاج لمعايير ونظم تمكننا من تحديد أولويات لا بد منها لنستطيع ترجيح حالة دون أخرى.
بالطبع الأقدمية ليس إحداها.

ابن خلدون يرى أن أبرز مقومات الحضارة هي الرفاهية (رفاهية الشعوب طبعًا لا الحكام!!) وما تتطلبه هذه الرفاهية من إرساء العدل بوجود سلطة تؤمن بعقيدة ما.

وجاءت أيضًا عند العرب كلمة الحضارة من التمدن، وهي طلب الرفاهية ومن هنا جاءت التفرقة بين البدو والحضر، ويلخص معظم الفلاسفة وعلماء الاجتماع قيام الحضارة بمقومين رئيسيين أولهما العقيدة أو الفلسفة أو الفكر وثانيهما توفر الطاقة، بشرية كانت أو بترولية أو زراعية وما إلى ذلك، وبالنتيجة دائمًا نجد أن الرفاهية هي نتاج أي من مقومات الحضارة.

دعونا من كلام الفلسفة وعلم الاجتماع، ولنتحدث بكلام طبي:

إن أصناف الأدوية المخدرة كثيرة وكل منها له تأثير مخدر معين، ومنها ما يذهب الوعي، ومنها ما يغيبه فقط، وهناك بعض المثبطات والمركنات التي يظن المريض أنها غير ذات تأثير لكن هذه المواد ما أن تتحد تأثيراتها وتجتمع بالجسم نجد أنها تدخله بغيبوبة لا مناص منها حتى يصبح أضعف مهدئ يعطَى كافيًا لاستمرارها، طالما نحن بعيدون عن أي منشط أو محفز قد يلغي كل ذلك، هكذا هي تلك العبارات التي نسمعها ولا نعطي لها بالًا تتسلل بهدوء وذكاء إلى وعينا وتتراكم هناك لتصل إلى تركيزها المسبب لغيبوبة طويلة، وتستمر هذه السموم بالتراكم وتستمر معها الغيبوبة.

لنحاول الآن المزج بين كلام الفلاسفة والأطباء:

لا بد لقيام الحضارة من عقيدة واضحة، تركيزها يتناسب تمامًا مع متطلبات الروح والجسد، غير مشوبة، غير منتهية الصلاحية، وبذلك نضمن خط الدفاع الأول، ولا بد أيضًا من تلك الطاقة البشرية التي نمتاز بها، فلا بد من مصارحتها ووضعها دائمًا بالصورة الحقيقة لمجتمعنا دون مجاملة أو محاولة تلطيف الواقع، لتكون هذه الصورة المشينة، ربما هي المنشط أو اللقاح الذي يبقينا عل قدر كافٍ من الوعي والنهوض للتغيير.

نعم أقدم حضارة في التاريخ لكنها بحاجة إلى إعادة تأهيل لتعود من جديد حضارة كما كانت، ورحلة النهوض هذه تتطلب منا البقاء على قدر كافٍ من الوعي والتوتر، أجل التوتر الذي يبدأ بالعقل ليكتمل بحركة اليد في سبيل النهوض للبناء.

باختصار لا يجب أن أفخر بحضارتي كأقدم حضارة في التاريخ دون أن يؤثر ذلك على فاعليتي وتوتري في سبيل الاستمرار ببناء هذه الحضارة.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد