من المعلوم أنه خلال ثمانينيات القرن الماضي، دخل المغرب «نادي الدول الليبرالية» كيف لا وقد وافق على إملاءات صندوق النقد الدولي جملة وتفصيلًا، خصوصًا في ما يتعلق ببرنامج التقويم الهيكلي (PAS)، المغرب اتبع سياسة الانتفتاح من أجل تحرير الاقتصاد الوطني، أملًا في اللحاق بركب الدولة المتقدمة أو الصاعدة على أقل تقدير.

إصلاحات المملكة المغربية، ارتبطت بعدة مجالات نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:

تبسيط المساطر الإدارية وإضفاء طابع المرونة عليها.

إصلاحات جمة في مجال الصرف.

إجراءات تعديلية في النظام الجبائي.

خلق مؤسسات وطنية لمواكبة المقوالات المغربية في الخارج من قبيل CNCE,CMPE,SMAEX

عقلنة النظام الجمركي، وتبسيط آلياته، بشكل يتماشى والمتغيرات الماكرو- اقتصادية.

رغم كل هذه الإجراءت العملياتية، ظل الاقتصاد المغربي، متخبطًا ويعاني ضعف التنافسية، ولعل هذا ما يبرزه الاختلال الهيكلي للميزان التجاري،لكن خلال السنوات القليلة الماضية فطن المغرب أن الحل يكمن في فلسفة لوجيستية منظمة، فلسفة تقوم على استراتيجيات محكمة لإنقاد ما يمكن إنقاذه.

إذن السؤال الذي يطرح نفسه: ما هي التدابير المتخذة من طرف المغرب لتحسين هذا القطاع؟ وما دور اللوجيستيك في إعادة هيكلة بنية الاقتصاد المغربي؟

موازاة مع إصدار مجموعة من الهيئات الدولية، لتقارير تقول إن الخدمات اللوجيستية تأخذ حوالي20 % من الناتج الداخلي الخام (PIB) وهو رقم كبير مقارنة مع دول أخرى صاعدة، عملت المملكة على تغير العقليات والاهتمام أكثر بهذا القطاع، من خلال تدابير شمولية ترمي لتخفيض النسبة لحوالي 15%، ولعل أهم الإجراءات حسب منظورنا التحليلي يتجلى فيما يلي:

إنشاء ميناء طنجة المتوسطي: وقد دخل حيز التنفيد سنة 2007 ، يقع عند مدخل جبل طارق، يعتبر معلمة لوجيستية فريدة من نوعها على المستوى العربي والأفريقي، فقد ساهم بشكل فعال في ربط المغرب تجاريًا مع ما يقارب 161 ميناءً دوليًا، مما ساهم في تعزيز المبادلات التجارية الخارجية.

الخطوط البحرية: أصبحت المملكة المغربية مرتبطة بأكثر من خط بحري مع عدة دول، وتصنيف سنة 2014 وضع المغرب في المركز 16 دوليًا، مقارنة بالمركز 84 سابقًا ولعل استراتيجية الموانئ لسنة 2030 لها الفضل الكبير في هذه النقلة النوعية.

تحسين البنى التحتية: يتمثل هذا إجمالًا في الطرق الكبيرة التي تم تشييدها، من الشمال للجنوب ومن الشرق للغرب، حيث أصبحت تربط بين مختلف المحاور الأساسية للبلاد، وتعتبر المواصلات بالمغرب الأكثر تقدمًا بأفريقيا، والمغرب يعتزم مستقبلًا، إنشاء ما يقارب 1500 كم من خطوط السكك الحديدية أيضًا، بالإضافة لتشيد مطارات حيوية جديدة.

عقلنة إدارة الجمارك والضرائب غير المباشرة: قامت الجمارك المغربية بعدة إصلاحات من بينها، تسهيل مساطر التجارة العالمية من خلال سياسة الإدارة الإلكترونية (e-Douane) لتسهيل التعاملات التجارية مع جل الفاعلين الاقتصاديين عن طريق المراقبة، كيف لا وهي تلعب دور الشرطة الاقتصادية عبر الحدود الاستراتيجية مما يجعل دورها حيويًا ومحوريًا داخل المنظومة الاقتصادية في إطارها الشمولي.

التكوينات الأكاديمية والجامعية: مباشرة بعد إعلان المملكة انفتاحها على مجال اللوجيستيك سارعت الجامعات الوطنية -وخصوصا المدارس العليا الخاصة-، لوضع برامج تكوينية لفائدة الطلبة في مجالات ترتبط بالتجارة الدولية واللوجيستيك، حيث لا تكاد تخلو جامعة أو معهد من أحد هذه التخصصات تشمل عدة مستويات، من التقني المتخصص والعالي للماجستير مرورًا بالإجازة المهنية، مما مكن من استقطاب كم هائل من الطلبة، لكن هذا سينعكس سلبًا نوعًا ما على مستقبل هذا القطاع، حيت نجد اليوم كثرة من الخريجين خصوصًا من المدارس الخصوصية، ما جعل العرض يفوق الطلب وبالتالي أصبحت الشركات تقدم رواتب هزيلة في بعض الأحيان لا تتجاوز الحد الأدنى للأجور المعروف بـ(SMIG) لحملة دبلومات الماجستير وللمهندسين أيضًا.

إنشاء الوكالة المغربية لتنمية الأنشطة اللوجيستية: تلعب هذه الوكالة والتي تعمل تحت وصاية وزارة اللوجيستيك، دورًا مهمًا خصوصًا فيما يخص تقليل مصاريف الخدمات اللوجيستية وعلاقاتها مع الناتج الداخلي الخام، حيث يتوقع انخفاض النسبة من 20% إلى 15% ، إضافة لهذا تساهم الوكالة الوطنية أيضًا في التخفيض من انبعاث تنائي أكسيد الكربون (CO2) في الطرق بحوالي 35% مما يجعل دورها محوريًا على الصعيد الاقتصادي.

ما هي صورة الاقتصاد المغربي بعد هذه التدابير؟

من المعلوم أن المغرب يرتبط باتفاقيات للتبادل الحر مع عدة دول، كالاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية وتركيا، بالإضافة لاتفاقية أكادير، لذلك تسعى المملكة لجلب الاستتمارات الخارجية الكبرى وكسب الرهان إقليميا في إطار التنافسية.

مصنع رونو طنجة: لم يكن اختيار الشركة الفرنسية المتعددة الجنسيات رونو للمغرب وليد الصدفة وإنما نتج عن دراسات مطولة حتى اقتنع مدراء المجموعة بالاستثمار بالمغرب على حساب دول الجوار، وأيضا على حساب دول أوربية عدة، والفضل يعود للمنهج اللوجيستي المعتمد من طرف المغرب، والمثمثل أساسا في الميناء الضخم طنجة المتوسطي الموجود بالقرب من المصنع الكبير، مما سيسهل عملية التصدير نحو الخارج بدون تكاليف لوجيستية هامشية.

ميناء طنجة المتوسطي: جعل المغرب قاعدة تصديرية لوجيستية متميزة نحو أوروبا ولعل الإحصاءات تبرز ذلك، فلأول مرة بالمغرب قطاع تصدير السيارات يتجاوز قطاع الفوسفات بقيمة بلغت 46 مليار درهم سنة 2014، ثم الفوسفات بمبلغ 44 مليار درهم، وفي المرتبة الثالثة نجد المنتجات المرتبطة بصناعة الأغذية التي حققت مبيعاته للخارج قيمة 43 مليار درهم.

جلب الاستثمارات الخارجية: العارفون بخبايا التدبير العالي بالشركات الكبرى يدركون أنه لكي تقرر شركة كبرى الاستثمار بدولة معينة، تشترط عدة شروط، فبالإضافة للأمن والاستقرار الماكرو-اقتصادي يأتي عامل اللوجيستيك، فمبدأ الشركات هو الربح والربح تحت لواء الرأسمالية، لهذا فوجود مناطق حرة وبنية تحتيه متميزة يساهم أكثر في جلب الاسثثماراث، وهذا ما يبرزه استقرار عدة شركات على غرار بوجو بالمنطقة الحرة للقنيطرة.

كل هذه العوامل ساهمت في ارتقاء الاقتصاد الوطني عاليًا والتقرير السنوي الأخير لسنة 2017 الذي يصدره البنك الدولي عن طريق (Doing Business) وضع المغرب في المركز الـ68 من بين 190 دولة متقدمًا بـ27 مركزًا فقط خلال السنوات الخمس الماضية، خصوصًا في مجال التجارة الدولية ليكون المغرب أولًا على مستوى شمال أفريقيا والثالث قاريًا.

أصبح الاقتصاد المغربي اقتصادًا متميزًا مقارنة مع دول الجوار، فبالرغم من غياب ثرواث الأرض الحيوية مثل البترول والغاز، غير أن المنهج العقلاني والحكامة الرشيدة عوامل تتفوق غالبًا، والتاريخ يشهد أن دولًا لا تمتلك أي شيء أصبحت اليوم تقارع كبار المنظومة الدولية في المجال الاقتصادي، وسنغافورة تبقى مثالًا جيدًا لتعزيز هذا الطرح، المغرب تنتظره إذن مجموعة من التحديات والرهانات في عدة مجالات من أجل اللحاق بركب الدول المتقدمة والصاعدة، واللوجيستيك ما هو إلا ميكانيزم ضمن مجموعة لرفع الاقتصاد المغربي نحو العالمية.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد