تحت وطأة الشمس الحارقة أتجه إلى الكانتين مسرعًا لشراء القليل من عبوات العصير لنجدة سليمان الذي لم يستطع استكمال صومه في رمضان بعد أن جف جسده وسقط تحت تأثير الهبوط الحاد. كان سليمان وعادل وسمير هم من تبقى من رفقاء مركز التدريب بعد أن تم توزيع بقية زملاء العنبر على وحدات أخرى. اعتياد الفراق هو أسوأ ما تتعلمه خلال الخدمة العسكرية. أو ربما الأفضل.
كان هناك محمد وكمال أيضًا أعرفهم قبل الالتحاق بالجيش، لكننا تعاملنا كالغرباء بالداخل، فلم يكن بيننا شيئًا يدعو إلى الصداقة رغم وجود الكثير من الأشياء المتشابهة بينهما، فكلاهما كان متحمسًا للحياة العسكرية، الجدية في الانضباط والاهتمام بتنسيق مظهره العسكري، القدرة على التفاؤل بدون سبب واضح، الاستيقاظ مبكرًا وحلاقة الذقن يوميًا، العمل على التقرب من الصول عصام كالتلميذ المطيع الذي يحاول التقرب من ميس عفاف مدرسة الموسيقى، عدم تقبل المزاح أو النكت خارج العنبر والإيشاء الفوري بمن يفعل ذلك في حالة محمد أوالمقاطعة في حالة كمال. أتذكر أن أحد العساكر طلب من كمال شربة ماء من زجاجته الملازمة له دائمًا فلم يجبه وعندما كرر السؤال عليه قام بإخبار الصول عصام بأن هناك من يحاول توريطه في أمر سيء.
ما علمته بعد ذلك عنهما أن محمد قد شارك في مظاهرات 30/6 بحماس شديد ضد حكم الإخوان المسلمين، بينما كمال كان موجودًا بين المعتصمين في رابعة وشهد فعاليات الفض الذي قامت به قوات الجيش.
استطعت أخيرًا الوصول إلى الكانتين بعد مجاهدة شاقة وسط الرمال التي تملأ فراغات البيادة والحصول على بعض علب العصير. خلال عودتي قام أحد الظباط بإيقافي أنا وبعض العساكر الذين اتفقوا على عدم استكمال الصيام في ظل هذه الظروف الطبيعية الشاقة. قام الظابط بتعنيفهم لكونهم “فاطرين ومعندهمش دين” ثم أرسلهم للعمل مع مجموعة أخرى من العساكر الذين يقومون بنصب عدد من الخيام وسط الصحراء. لكنه تركني أمُر بعبوات العصير عندما أخبرته أنها من أجل جندي آخر يحتضر عطشًا على عتبة مكتب الأفراد.
كان سليمان من عائلة ذات أصول سيناوية، لم يكن يتوقف عن سرد الحكايات الطريفة عن أفراد عائلته والعائلات البدوية الأخرى وعن طريقة عيشهم ومدى انعزالهم عن واقع الحياة المصرية وعراكاتهم المسلحة ومواقفهم المضحكة. أمّا عادل فكان أصغرنا سنًا ونموذجًا مثاليًا للشاب المتمرد المثير للمشاكل دائمًا. بينما سمير كان أكبرنا سنًا رغم ملامحه الطفولية وأكثرنا معاناةً لابتعاده عن ملذات الحياة التي اعتاد عليها بالخارج. كان كثيرًا ما ينظر إلى السماء ليلًا مصدرًا تنهيدة مجهدة تنم عن لوعة عاشق متيّم قد أحرقت نار الاشتياق صدره، ثم يتبعها بسؤال لا يرجو له إجابة “يا ترى عاملة إيه دلوقتي يا أم أحمد!” وعندما سأله سليمان ذات مرة مين أم أحمد دي؟ مراتك؟ ضحك سمير ثم نظر إليه نظرة حكيم قد أرهقته المعرفة وقال “لا يا سليمان، أم أحمد دي صاحبة بيت دعارة محترم” ثم عاد مرة أخرى إلى خيالاته.
كنا خلال هذه الفترة نجلس طوال اليوم أمام مكتب الأفراد لأخذ التمام كل ساعتين متسلليلين بين الحين والآخر إلى رحاب الكانتين والحصول على سندوتشات البيض والجبنة الرومي وعبوات الإندومي والقليل من هواء مروحة السقف. في نهاية اليوم نتجه إلى الخيام التي أعدت من أجلنا بجوار الكانتين. كانت الخيمة الواحدة تستضيف أكثر من عشرين مجندًا ينامون وفي أحضانهم المخلة والبيادة حتى لا يخسروا شيئًا منها أثناء النوم. كان البعض يقوم بربط البيادة بمعصمه قبل النوم بينما الأغلبية كانوا يفضلون عدم خلعها تجنبًا لما قد يحدث من أضرار جسيمة. لم تحصل أجسادنا على رفاهية الاستحمام منذ عدة أيام.
كانت تلك الفترة تمثل صراعًا عنيفًا ضد عوامل الطبيعة الصحراوية الشرسة من أجل البقاء. من يحمل كوبًا من الماء يخفيه بين أغراضه حتى لا يضع نفسه في موقف محرج مع شخص آخر قد يطلب منه شربة الماء تلك. كان الجميع يواجهون تحديًا صعبًا لا يمكن الهروب منه إلا عن طريق معجزة سماوية تأتي من إله رحيم في السماء أو اتصال هاتفي يأتي من رتبة عالية في الجيش. بالفعل استطاع عادل وسمير ثم سليمان الحصول على ذلك الاتصال الهاتفي واستخراج تصريح بالإجازة. بينما بقيت أنا في انتظار المعجزة السماوية وحيدًا كما بدأت.
هنا أدركت تمامًا أن عصر المعجزات قد انتهى تحديدًا مع بداية عصر الهواتف المحمولة.
يتبع.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست