نستكمل اليوم مناقشة المقالة الهامة التي نشرها أحد الكتاب الشبان المتميزين وهو الأستاذ (أحمد عبد ربه) في عدة مواقع وأثارت الاهتمام بعنوان (انتقال سياسي طويل)، قدم فيها رؤاه وأطروحته لنموذج ما بعد العهد الحالي، بحيث تستكمل أهداف ثورة يناير نحو الوصول إلى ما يرى أنها (الجمهورية الثانية).
وكنت في المقالة السابقة علقت على نقطة الانطلاق الخاصة كما طرحها الكاتب، وأوضحت أنه من الخطأ التاريخي أولًا والسياسي ثانيًا اعتبار الجمهورية الثانية لم تنشأ!!، وهذا يكافئ أن نقول إن ثورة يناير لم تقم!!!، لا يجب أن تصرفنا الانتكاسة عن حقيقة أن جمهورية ثانية نشأت بعد ثورة يناير، وقامت بتحقيق العديد من طموحاتها، ومنها أنجح انتخابات برلمانية وأكثرها نزاهة وإقبالًا وتعددًا منذ سقوط العهد الملكي، ومنها أول انتخابات رئاسية حقيقية في التاريخ المصري الحديث، ثم انتخاب رئيس ينتمي لأحد فصائل الثورة، ثم إقرار دستور يمثل الجمهورية الجديدة، فكيف نتجاهل كل هذا لنعتبر كل ما سبق وغيره من محاكمات مبارك ورموز امتدادًا للجمهورية الأولى؟!!
ثم نقدت بعض ما قدمه من الرؤى واعتبرت أنها استعادة لعدد من الأخطاء الأساسية التي أودت بالجمهورية الثانية.
ويبقى السؤال: فما هي الرؤية البديلة إذًا لكي تحقق ثورة يناير أهدفها، وما هي خارطة الطريق الحقيقية لذلك، ولعلي في الخطوات التالية أعرض مساهمتي في هذا، ناسجًا على منوال ما قدم كاتبنًا:
أولًا: لا بد من عودة الاصطفاف الثوري مكونًا من القوى التي شاركت في ثورة يناير في أيامها الأولى، والمؤمنة بمبادئها ودورها التاريخي، ولم تشارك في عهد ما بعد التفويض، كل من شارك في يناير ولم يشارك في نظام 3 يوليو أو انفصل عنه ولم يشارك في مرحلة ما بعد التفويض فهو مدعو للاصطفاف الشعبي.
ثانيًا: لن تستقيم مصر على الطريق الصحيح الذي يضعها في مكانتها بين الأمم إلا باستعادة ثورة يناير وروحها ومبادئها واصطفافها الثوري، وهذا لن يكون إلا بهبة شعبية من الجماهير المصرية تتقدمها طلائع الاصطفاف الثوري المذكور آنفًا والذي شكل معظم اصطفاف يناير.
ثالثًا: يجب أن تكون هناك مراجعة من أطراف الاصطفاف لأخطاء التجربة الأولى من خلال اجتماعات توافق وتشاور مكثفة، تناقش فيها الأخطاء للاعتراف بها والعمل على حلها، وحبذا الاعتذار عنها علنيًّا وشعبيًّا، ويجب أن يكون هناك اتفاق واضح على خطوات خارطة الطريق وأجندة واضحة، بأعلى قدر من التجرد، وبعيدًا عن مساومات المحاصصة والغنائم الفردية أو الفئوية أو الحزبية أو الأيديولوجية، بل يجب أن يكون محور التوافق هو رد ألمر إلى الشعب وهو مصدر السلطات.
رابعًا: يجب أن يكون واضحًا ومعلنًا من اللحظة الأولى أن هذا الاصطفاف وهذه الهبة الشعبية الجديدة هي فرصة لمصر يجب ألا تضيع، هي فرصة ثمينة إن لم تكن الأخيرة، وأنها ليست ضد فصيل سياسي، أو ضد طائفة دينية، أو ضد مؤسسة مصرية سيادية أو غير سيادية، عامة أو خاصة، وأنها كذلك لا تمثل فصيلًا سياسيًّا أو طائفة دينية، هي لمصر وضد المنظومة التي تنتهك مصر ويكبلها وينكل بأبنائها ويجعلها في ذلك الأمم في الاقتصاد والتعليم والشفافية وغيرها.
خامسًا: كما يجب أن يكون واضحًا أن هذا الحراك ليس لمصلحة دولة ما، وليس ضد دولة ما، وأنه شأن داخلي مصري، ومصر تتفهم الاهتمام بشأنها باعتباره مؤثرًا في المنطقة، لكنها يجب أن تتصدى وبحسم للتدخل في الشأن الداخلي، من قبيل تمويل قوى سياسية وشراء ذمم وتمويل منابر إعلامية داخلية لتقويض النظام الديموقراطي والتآمر على الثورة المصرية وتشويه صورتها.
سادسًا: المطلوب هذا المرة من (الجمهورية الرابعة) مغاير لما كان مستهدفًا في الجمهورية الثانية وأودى بعهدها، كانت الجمهورية الثانية التي نشأت في أعقاب ثورة يناير (بفترتيها، المجلس العسكري ثم عهد الرئيس مرسي) تظن أن بسقوط مبارك وعزل رؤوس حكمه فإن نظامه قد سقط، ولم تنتبه الثورة بكل أطيافها تقريبًا –عدا آحاد– إلى أن الدولة العميقة المستفيدة من مبارك وحكمه هي أوسع بكثر من الدائرة المحيطة به، وغر الثوار كمونها، بالتالي كانت النتيجة في النهاية أن انقضت على التجربة الوليدة، وجاءت بالجمهورية الثالثة الحالية التي تستدعي أسوأ وأشرس وأفسد ما كان في الجمهورية الأول، وبأكثر أوجهها صراحة، هذه الدولة العميقة مكونة من طبقات فاسدة في الشرائح العليا للمؤسسات الحاكمة للدولة وكذلك الوزارات المختلفة، وهي متحالفة تحالفًا عضويًّا من رجال الأعمال الموالين والمحرضين على الفساد وإخلاط من الإعلاميين المأجورين، والطوائف التي ترتبط مصالحها ارتباطًا عضويًّا بمناخ الفساد، مثل الراقصات وأطياف الفن المبتذل في أوجهه المختلفة.
وأنا أتفق مع الكاتب على أن المؤسسات الحاكمة للدولة وكذلك الوزارات المختلفة يجب أن تخضع لتطهير حقيقي وشامل يستهدف الطبقات الفاسدة فيها خاصة العليا منها، فالسمكة تفسد من رأسها، وأتفق معه في أن يكون هذا التطهير بحيث يمنع سقوطها أو تفككها، ولكني أختلف معه في أن وضعها نقطة خامسة بينما هي المعركة الكبرى والعاجلة لأي نظام جديد، كما أختلف معه في الضوابط التي وضعها وفيها شبهة محاصصة وتقسيم غنائم لا يوجد مجال لها على الإطلاق.
سابعًا: العدالة الانتقالية يجب أن الخطوة الأولى في هذا التطهير المرتقب، بمنطق القصاص لا بمنطق الانتقام، فالعدل أساس الملك، العدالة السريعة والناجزة والحاسمة هي أساس بناء مصر الحديثة، فلا بد من إنشاء محكمة خاصة للثورة تفصل في الجرائم التي ارتكبها مدنيين بحق مصر، وتشمل جرائم القتل الجماعي والفردي، والتعذيب الجماعي والفردي، والنهب، وإفساد الحياة السياسية، وتمويل التآمر على النظام الديموقراطي، خلال الثلاثين عامًا الأخيرة، على أن تفصل دائرة محكمة عسكرية خاصة في الجرائم المماثلة التي ارتكبها عسكريون أو شرطيون، على أن تنتهي تلك المحاكمات في أسابيع قليلة، إذ إن الوقائع وإثباتات معظم تلك الجرائم ثابتة أو قريبة المنال، وأغلب الشهود أحياء.
ثامنًا: لقد كانت تجربة الانتخابات النيابية في أعقاب ثورة يناير تجربة ناجحة، كفلت تمثيل جميع الأحزاب والتيارات السياسية، ولم يحصل حزب معين على الأغلبية، وبالتالي فهذا النظام يصلح أساسًا للبناء عليه دون أن نتعمد الحجر على الشعب بالمحاصصة، أو (باختراع) نظام انتخابي يمنع تكون أغلبية كما أقترح الكاتب، وبالتالي كأننا نصنع فشل المنظومة بأيدينا، ويمكن زيادة نسبة القوائم النسبية إلى الثلثين إذ إنها النظام الأكثر ضمانًا لتعددية التمثيل.
تاسعًا: إن دستور 2012 – بغض النظر عن أي انتقادات وجهها البعض لبعض نصوصه، هو صاحب آخر شرعية دستورية حقيقية. وما زال يشكل الأساس الدستوري والشرعي السليم لأي نقطة انطلاق نحو تصحيح دستوري، ويجب أن يكون أي تفكير في تعديلات دستورية هو تفكير طويل المدى يأخذ وقته ودراسته المتعمقة، حتى لا تبتذل فكرة الدستور عند المواطنين حين يدعى المواطن كل عام أو عامين للاستفتاء على دستور!
عاشرًا: يجب أن يتم تعويض جميع المضارين من الأحداث التي حدثت منذ ثورة يناير وحتى الآن، وتشمل القتلى والجرحى ومن سجنوا ظلمًا ومن شردوًا من أعمالهم ظلمًا ومن أضيروا ماديًّا، على أن يتم تعويضهم من خلال صندوق تعويضات يتكون رافده الأساسي من مصادرة أموال الذين يحكم عليهم محاكم العدالة الانتقالية سالفة الذكر، ثم من خزينة الدولة.
الحادي عشر: لا بد من تفكيك جميع المؤسسات السياسية والإعلامية التي مثلت روافد صريحة للدولة العميقة، فكل الأحزاب التي تآمرت على النظام الديموقراطي، وكل القنوات الإعلامية التي حرضت على قتل المواطنين وشكلت الظهير السياسي والنفسي للمذابح يجب أن تحل ويتم مصادرة أموالها لصندوق التعويضات، ويمنع رموزها من الظهور الإعلامي أو المشاركة في الحياة السياسية لعشر سنوات، ويحال المتورطين منهم في التحريض إلى محاكم العدالة الانتقالية، كما يحاكم أمام تلك المحاكم ملاك تلك القنوات الذين يثبت توجيههم الصريح لسياستها للتآمر على النظام الديموقراطي وتقويضه، وتصادر أموالهم فيكونون عبرة لمن تسول له نفسه التآمر على النظام الديموقراطي مرة أخرى.
الثاني عشر: نثق في أن الاقتصاد المصري تتوفر فيه عوامل النهوض الذاتي، إذا توفرت أربعة عوامل، إذا خلصت النوايا وصلح الرأس، وضرب على يد الفاسدين، ووسد الأمر في المواقع المختلفة إلى القوي الأمين، وتم الاستعانة بأهل الخبرة الحقيقيين بعيدًا عن المدعين، وإلى أن يتم هذا سيظل الاقتصاد يعاني، وعلى هذا فخلال المرحلة الاقتصادية لا بد من إجراءات تقشف، وكذلك محاربة فساد لا هوادة فيها داخليًّا، مع الاستعانة بالدول الصديقة خارجيًّا بصورة مؤقتة، وعليه فإن وضعية الجمهورية الرابعة تحتم عليها ألا تحاول تصفية حسابات خارجية، فلا يوجد في السياسة عداوات دائمة أو صداقات دائمة.
وأخيرًا أقتبس من الأستاذ أحمد عبد ربه خاتمته -مع بعض التصرف يتناسب مع اختلاف الرأي مع ما أبداه- فأقول: أتصور أن المبادئ السابقة قد تشكل أساس خاضع للنقد والتعديل والإضافة والحذف، يساعد فيما بعد في خلق عملية تفاعلية تتدافع فيها قوى سياسية ومجتمعية وسلطوية في فترة انتقالية تنتهى أخيرًا ببناء جمهورية رابعة تليق بحضارة ضاربة بجذورها في التاريخ.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست