كل إنسان يولد على فطرة. وهذه الفطرة ليست دينًا أو لغة، إنما فطرة التسامح، السلام والتعايش. فالتاريخ رغم كل الأحداث الدموية التي عاشتها البشرية، لكنه لم يخل من القصص الإنسانية، التي تبرهن على أن الأصل في الإنسان هو الخصال النبيلة و الجميلة. وقد أكده كل من المفكر الهندي المهاتما غاندي، والفيلسوف الروسي ليو تولوستوي، في العديد من مراسلاتهما حول موضوع الأصل في الإنسان؟
فقصة هدنة ليلة عيد الميلاد أو الكريسماس في سنة 1914 مثلًا، حين تبادل الجنود الألمان وجنود دول الحلفاء السجائر، ولعبوا مبارة في كرة القدم، في ساحة المعركة، واحتفلوا جميعًا في تحدٍّ لقادتهم الذين يحثونهم على العداوة والاقتتال. لدليل على أن النفس البشرية تميل إلى الحب، والتعاطف، والرفق.. وغيرها من القصص الإنسانية كثير. وفي أواسط القرن العشرين، حدث أن قرر رحالة نرويجي اسمه تورهاردل، بأن يقوم برحلة بحرية على ظهر سفينة من أفريقيا إلى أمريكا، هذه السفينة أقل ما قد يقال عنها، إنها مدرسة الإنسانية. وهي عرض حديثي في هذا المقال.
كانت الآراء تتضارب حول أصل الحضارة الأمريكية. فالرأي الأول يقول إنها نشأت مستقلة عن باقي الحضارات، أما الرأي الثاني يؤمن بأن بعض الأفارقة وخاصة الفراعنة، هم من وصلوا في وقت ما إلى أمريكا ونقلوا إليها حضارتهم، ويدعم وجهة نظرهم تلك أن الهنود الحمر كانوا يصنعون سفنهم من ورق البردي، وبالطريقة نفسها تمامًا كما كان يفعل الفراعنة. لكن خبراء المصريات يقولون إن الفراعنة لم يبرحوا بسفنهم تلك نهر النيل؛ لأن ورق البردي يذوب في الماء، وبالتالي لا يمكن أن يكونوا هم من وصلوا وأوصلوا الحضارة إلى المكسيك.
أما الرحالة النرويجي تورهايدال فله رأي آخر، وهو أن يجرب، وينشئ سفينة من ورق البردي ليركب بها البحر من أفريقيا إلى أمريكا؛ لكي يقطع الشك باليقين، في وصول المصريين للعالم الجديد من عدمه.
فقد بنى السفينة في مدينة الإسكندرية المصرية، وأطلق عليها اسم «رَعْ الأول» – ورع هو إله الشمس عند الفراعنة-وحملها برًّا، إلى ميناء أنشأه الأمازيغ قبل قدوم البرتغاليين إلى شاطئ بالمحيط الأطلسي، ومنه بدأت المغامرة.
كان على ظهر السفينة سبعة رجال، قائد الرحلة تورهايدال، وهو نرويجي ويدين بالديانة المسيحية وعقيدته بروتستانتية، وأفريقي مسلم من بلاد تشاد يتكلم العربية فقط، ولا يجيد القراءة، كما أنه شارك في الرحلة أستاذ جامعي مكسيكي مسيحي وكاثوليكي المذهب، ومصور الرحلة كان إيطاليًّا كاثوليكي المذهب كذلك، وقد شارك في المغامرة كذلك مهندس مصري مسيحى أرثوذوكسي، أما الروسي فقد كان طبيبًا ملحدًا، وأخيرًا رجل أمريكي يهودي الديانة وعارف في أمور الملاحة والبحار. كانت أول تجربة إنسانية قبل كل شيء، فعلى سطح «رع» اجتمعت تناقضات قومية، لغوية، ودينية.
لكنهم تمكنوا في أن يكونوا جسدًا واحدًا رغم اختلافهم في كل شيء. فكان الأفريقي يتوضأ ويصلي خمس مرات في اليوم بكل حرية. كما كان يؤدي الآخرون شعائرهم الدينية والمذهبية دون أيما حسيب أو رقيب. فكان المصري الأرثوذكسي يعلم الأفريقي المسلم القراءة والكتابة في أوقات الفراغ. أما الروسي الملحد فكان يهتم بحالة كل من ألمّ به مرض.
في وسط المحيط الأطلسي هاج البحر وتعالت الأمواج، وتمايلت «رع» ذات اليمين وذات الشمال، وكلما سقط أحدهم في البحر، أسرعوا جميعًا إلى إنقاذه. كانوا متضامنين ومتحدين فيما بينهم، يساعد بعضهم بعضًا كالأقزام السبعة في رواية «بياض الثلج والأقزام السبعة» للإخوان جرمي الصادرة سنة 1812. إذ تدور أحداث القصة حول فتاة صغيرة تاهت في غابة يسكنها الأقزام. فلما وصلت إلى بيتهم الصغيرة أكرموها بالمأكل والمشرب وأدمجوها في عوالمهم، دون أن يمنع ذلك اختلافها عنهم في كل شيء. وأشارت الرواية إلى حرصهم على الود والاحترام، والحب، والتضحية المتبادلة فيما بينهم، تلك القيم التي جعلتهم يصمدون رغم ظروفهم الصعبة وسط الغابة.
استمرت الرحلة، لكن البحر أتلف جزءًا من «رع الأول» فبعثت إليهم زوجة هايردال سفينة ثانية مصنوعة من البردي مرة أخرى، صنعت على أيدي ثلاثة رجال من الهنود الحمر القادمين من بوليڤيا إلى شاطئ بالمغرب. فأطلق عليها اسم «رع الثاني»، في هذه المرحلة من الرحلة، انسحب الأفريقي ليلتحق بنسائه الثلاثة، ويحل مكانه رجل أمازيغي اسمه مَدَنِي.
بعد 57 يومًا من الرحلة، وصلوا جميعًا إلى الشاطئ الأمريكي، لقد نجحت الرحلة وانتصرت من خلالها القيم الإنسانية على التعصب والكراهية. كما قدم لنا «رع» درسًا مهمًّا في العيش معًا، وأن نحب ونسامح بعضنا بعضًا رغم الاختلاف.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست