إن معظم الناس ينظرون إلى سيغموند فرويد من خلال الجنس، وليس الحب، ولكن في الحقيقة إن فرويد كان مهتمًا بالحب أساسًا إذا نظر إلى الجنس بوصفة التربة التي نشأ منها الحب، فمنذ انطلاقة علم النفس الحديث وموضوع الحب هو المادة الخام فيه، وجل علماء النفس يرون أن الاختلالات النفسية التي تطرأ على المرضى ما هي إلا نتيجة لفقدان نوع من أنواع الحب المتعارف عليه، فمثلًا بروير يرى أن مرضى الهستيريا هم مرضى الحب، وكذلك مرض العصاب يعتبر نوعًا من أنواع عدم القدرة على الحب وهلم جرًا بغض النظر عن الأسباب الأخرى التي قد تعتبر جانبية.

إن الحب كونه أداة لتجنب أي قلق حقيقي نواجهه في حياتنا من البديهي إذا ما فقدناه أن نتعرض لأزمات نفسية؛ لكون فقدانه يحول دون استقرارنا النفسي، ويرى بعض علماء النفس أن جذور الحب تأتي في الحاجة إلى الانتماء المركوزة في أصلابنا، فالطفل مثلًا يحن لأمه ويشعر بالانتماء إليها؛ لأنه كان في وقت ما قطعة صغيرة منها، وعندما اشتد عوده بدأ يحن ويحتاج لشريكة حياته، والتي هي بالضرورة تشبه أمه، ومن جنسها الأنثوي المكمل لجنسه حتى تذكره بذلك الانتماء القديم الذي يصبو إلى العودة إليه في لا وعيه، ويقول فروم في كتابه فن الحب عن هذه الرغبة في الاندماج: (إن هذه الرغبة في الاندماج مع شخص آخر هي أكبر توقان لدى الإنسان أنها أشد عواطفه الجوهرية أنها القوة التي تبقي الجنس البشري متماسكًا، وكذلك القبيلة والأسرة والفشل في تحقيق هذا الاندماج يعني الجنون أو الدمار للذات، أو الدمار للآخرين بدون حب ما كان للإنسانية أن توجد يومًا واحدًا) وقد عرف بعضهم الحب بأنه القدرة أن تعطي نفسك تلقائيًا للنسيان.

يطيب لأصحاب الحب الرومانسي مقولة (الحب من أول نظرة) ويعللوا الحب بالوجدان أو الماورائيات والبعض يحيله إلى عالم الذر المذكور في الموروث الديني، والذي في معناه أيضًا اختلاف، فقد جاء: (الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تنافر منها اختلف)، لكن علماء النفس لديهم وجهة نظر مختلفة تمامًا عما ذكر، فاذا التقى شخصان مثلًا ووجدا في أنفسهما حبًا للآخر فالحب بينهما من وجهة نظر علم النفس يحال إلى لا وعيهما، وفي عالم اللاشعور وحده يكمن سبب حبهما، وهذا الحب – حسب فرويد – ينقسم إلى قسمين أحدهما يتعلق بالذات الشخصي وهو (الأنا) والآخر بالمحبوب وهو (الهو) وازدياد إحدى الكميتين مرهون بنقصان الآخر، فحين يزداد موضوع الحب فإن حب الذات يجب أن ينخفض والعكس بالعكس.

ولكي نقرب الصورة أكثر نعود للمثال الذي سبق وضربناه، ولنفرض أن التقاء الشخصين كان بين ذكر مع أنثى، فإن حدث بينهما تجاذب وانسجام وبدأ كل منهما يميل إلى الآخر، فسبب ذلك الانسجام والتجاذب حسب – علم النفس – يعود إلى لا وعيهما الذي تكون من خلال خبراتهما السابقة، ولعل أبرز مجريات القصة قد انطلقت في سن الطفولة والذي يعتبره المتخصصون مفتاح كل شخصية، فإذا ما أردنا معرفة الإنسان جيدًا، كان لابد علينا من معرفة طفولته المبكرة بالتفاصيل، فالمرء كما قيل مجبول على حب من أحسن إليه، فإن وجدت من تحبه لا شعوريًا، فتش في ذكرياتك جيدًا ستجد أن هنالك قواسم مشتركة بينه وبين شخص آخر تحبه في زمن مضى، فقد يكون بينك وبين ذلك الشخص منافع مشتركة، فتحبه على أساس تلك المنافع، وبالتالي ستحب كل من يشبهه، سواء في شخصيته، أو شكله، أو حتى طريقة حديثه، وستشعر بارتياح نحوه دون سبب، ومن عادة الإناث أن يبحثن عن شبيه لآبائهن، وكذا الرجال يبحثون عن شبيهات أمهاتهم.

كثير ممن يقعون في الحب يصابون بالصدمة بعد خوضهم لتجربته، فالتوقع من الطرف الآخر دائمًا ما يأتي مخيبًا للآمال، وموقعًا صاحبه في أزمات نفسية علمًا أن هذا التوقع يعد أحد أسباب مرض الاكتئاب المعلوم عند علماء النفس، وقد وصف الأديب الروسي فيودور دوستويفسكي في روايته الجريمة والعقاب هذه الحالة فقال: (هكذا حال النفوس الرومانسية دائمًا: تظل حتى آخر لحظة تزين الناس بريش الطاووس تظل حتى آخر لحظة تفترض الخير لا الشر.. فهي بوجهها تحجب الحقيقة إلى أن يأتي الإنسان الذي زينته بريش ملون من خيالها فيصفع وجهها، ويدمي أنفها بيده) وعلة هذه الخيبة هو أن أدمغتنا اعتبرت الطرف الآخر الذي أحببناه شخص قديم مخزون في ذاكرتنا ليس ذلك الشخص الذي نشبهه به، فقذفت أدمغتنا مشاعر الحب والامتنان نحوه دون معرفتنا لحقيقة تلك المشاعر الموجهة لشخص غير موجود أساسًا، ومما يزيد الطين بلة هو رفض تعليل ذلك الحب، ونسبته إلى الماورائيات وعالم الذر وهو في حقيقته حسب – علماء النفس – عائد إلى عالم اللاشعور وخبراتنا القديمة المخزونة في ذاكرتنا ليس إلا.

لا شك أن الكثيرين، لاسيما الرومنسيون لا تروق لهم وجهة النظر هذه التي يظهر فيها وجه الحب شاحبًا خاليًا من المثالية والهالة التي تحاط بها عادة، لكننا نعرض في هذا المقال وجهة نظر يختلف في تفاصيلها حتى علماء النفس أنفسهم، وعلى أية حال موضوع الحب متشعب جدًا ومختلف في ماهيته، وقد ألفت مئات الكتب عنه من وجهات نظر مختلفة، سواء كانت فلسفية أو نفسية أو علمية أو صوفية أو حتى كيميائية، وكلها تتحدث عما نسميه حب، لكن بعيون وخلفيات مختلفة ومتناقضة جدًا!

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

تحميل المزيد